الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

الفصل الأول من رواية (ثمة ما أخبرك به) للكاتب حنيف قريشي



نزلت إلى مفترق الطرق
وجثوت على ركبتيّ
روبرت جونسون
القسم الأول
1
الأسرار هي عُمْلتي المتداولة: أتاجر فيها لأكسب قوتي. أسرار الرغبة، أسرار ما يسعى إليه الناس في واقع حياتهم، أسرار أكثر الأشياء التي يخشاها الناس. الأسرار التي تبرر صعوبة الحب، وتعَقُد الجنس، والعيش في ألم والموت القريب البعيد في آن. لماذا هذا الارتباط الوثيق بين المتعة والعقاب؟ كيف تتحدث أجسادنا؟ لماذا نُصيب ذواتنا بالمرض؟ لماذا تريد أن تفشل؟ لماذا المتعة من الثقل بحيث لا تُحتَمَل؟
غادرت امرأةٌ غرفة الكشف في عيادتي توًا. أخرى سوف تصل في غضون عشرين دقيقة. رتبت الوسائد على أريكة التحليل، واسترخيت في مقعدي بصمت غير معتاد، وبينما كنت أشرب الشاي، أتأمل الأفكار، والجُمَل والكلمات التي تضمنها حوارنا، وكذلك الروابط والفواصل بينها.
غالبًا كما أفعل في هذه الأيام، أبدأ التفكير في عملي، والمشاكل التي أعانيها فيه، وكيف أصبح هذا وسيلتي في كسب الرزق، ووظيفتي، ومتعتي. ومن المربك حتى بالنسبة لي أن عملي قد بدأ بجريمة قتل ـ واليوم هو ذكراها السنوية، لكن كيف تفعل هذا الشيء ـ تلاها رحيل حبي الأول، آجيتا، إلى الأبد.
أنا محلل نفسي. بعبارةٍ أخرى، قارئ للعقول والإشارات. أحيانًا ما أوصف بأنني منطوٍ، مداوٍ، مخبر سري، فاتح أبواب، منقب عن البذاءة، أو محض دجال ومشعوذ. مثل ميكانيكي سيارات يرقد على ظهره، أتعامل مع الأعماق أو ما وراء الحكاية: الخيالات، والأمنيات، والأكاذيب، والأحلام، والكوابيس ـ العالم القابع تحت العالم، الكلمات الحقيقية الخبيئة تحت تلك المزيفة. أتعامل بمنتهى الجدية مع المادة الأكثر غرابة؛ أنا أوغل في الأماكن التي لا تستطيع اللغة الذهاب إليها، أو حيث تتوقف اللغة ـ الـ ’لاموصوف‘ ـ وفي الصباح الباكر أيضًا.
حينما يمنح الناسُ الندمَ كلمات مغايرة، أدرك كيف أن رغبة الناس وآثامهم تزعجهم وترهبهم، الأحاجي التي تُحْدث بلهيبها ثقبًا في الذات وتشوه الجسم وتشله أيضًا، جراح التجربة، تنفتح ثانيةً لأجل صالح الروح وهي تتجدد.
إن الناس، على أعمق المستويات، أكثر جنونًا مما تريد عقولهم أن تتخيل. ستجد أنهم يخافون أن يُؤكلوا، وتستحثهم غرائزهم أن يلتهموا الآخرين. إنهم يتخيلون أيضًا، في السياق الطبيعي للأمور، أنهم سينفجرون، أو سينفجرون في دواخلهم، سيتبددون أو سيُنْتَهكون. حياتهم اليومية تخترقها مخاوف قوامها أن علاقات الحب الخاصة بهم تتضمن، ضِمْن الأشياء الأخرى، تبادل البول والغائط.
دائمًا، قبل أن يبدأ أي شيءٍ من هذا، أستمتع بالقيل والقال، وهي مؤهل جوهري للمهنة. الآن اعتدت أن أتلقى قدرًا وافرًا منه، يومًا بعد آخر وعامًا بعد آخر، يهمي داخلي نهرٌ من الأبخرة الآدمية غير المرئية. وكالعديد من الحداثيين، فرويد منح امتيازًا لفتات الصخور. يمكنك أن تطلق عليه أول فناني ’الموجود‘، من استخرج المعنى من ذلك الذي كان عادةً ما يُهمل ويُنبَذ. إنه لعمل بغيض، أن ترتبط بشدة مع الآدمي.
ثمة شيء آخر يحدث في حياتي الآن، تقريبًا غِشيان المحارم، ومن قد أمكنه التنبؤ به؟ أختي الكبرى، ميريام، وأعز أصدقائي، هنري، قد امتثلا لهوى تجاه بعضهما البعض. كل كياناتنا المستقلة يجري تبديلها، في الواقع تهتز، بواسطة هذه العلاقة البغيضة.
أنا أقول بغيضة لأن هناك أنواع مختلفة تمامًا من الناس، ممن لا يمكن أن تفكر فيهم على أنهم أزواج. هو مخرج مسرحي وسينمائي، مفكر صفيق عاطفته مختزلة في الكلام، والأفكار، والجديد. هي لا يمكن أن تكون أكثر قسوة، رغم أنها كانت تُعْتَبَر دائمًا ’ذكية‘. كان مدركان لبعضهما البعض على مدار سنوات؛ أحيانًا كانت تصطحبني لحضور عروضه.
أظن أن أختي قد كانت دائمًا في انتظار دعوتي لها بالخروج؛ وهذا قد استغرق مني وقتًا كي ألاحظه. رغم أن محاولة لإيجاد مبرر ـ في وقت تتفتت فيه ركبتيها ولا تستطيعان حمل وزنها المتزايد ـ كانت ملائمة لميريام كي تغادر المنزل، والأبناء والجيران. كانت دائمة فريسة للتأثر والسأم. تحب كل شيء عن المسرح باستثناء المسرحيات. كانت أفضل أوقاتها في المسرح هي الفواصل بين الفصول، عندما يكون هناك شراب، سجائر وهواء. أتفق معها، فقد شاهدت العديد من العروض المسرحية الرديئة، لكن بعضها كان يشهد فترات فاصلة كبيرة. هنري، نفسه، كان يغط في النوم حتمًا في خلال ربع الساعة من بداية أي عرض، تحديدًا لو كان مخرج العرض من أصدقائه، رأسه الفَرْويّة كانت تستند رقبتك وهو يقرقر برقة في أذنك مثل غدير ماء ملوث.
كانت ميريام تعرف أنه لن يأخذ وجهات نظرها على محمل الجد أبدًا، لكنها لم تكن تخاف منه أو من غروره. قيل عن هنري، وعن أعماله على وجه الخصوص، أنه يتحتم عليك أن تطري عليه حتى يحمر وجهك خجلاً، ثم تبدأ البناء من هذه النقطة. ميريام لم تكن من مادحيه؛ لم تكن ترى أن هناك حاجة لذلك. بالعكس كانت تحب أن تنخس هنري. ذات مرة، بعد إحدى مسرحيات إبسن أو موليير في الردهة، أو ربما كان أحد عروض الأوبرا، أعلنت أن تلك المسرحية كانت طويلة للغاية.
جميع من كانوا على مقربة منا كتموا أنفاسهم حتى قال عبر لحيته الرمادية، وبصوت عميق، ’للأسف، ذلك، بالضبط، هو الوقت الذي استغرقه العرض من البداية إلى النهاية.‘
كان رد ميريام، ’حسنًا، كان من الممكن اختصارهم معًا، هذا كل ما أردت قوله.‘
الآن هناك شيءٌ ينمو بينهما ـ هما من أصبحا أكثر اقترابًا من بعضهما عن ذي قبل.
هكذا حدث.
حين لا يكون هنري منشغلاً بالبروفات أو بالتدريس، يتمشى في حدود مكاني في أوقات الغداء، مثلما فعل قبل بضع شهور مضت، ويكون قد اتصل بماريا أولاً. ماريا، التي تتحرك ببطء، اللطيفة، المندهشة بأريحية، وهي في الواقع مكبوحة الشهوات ـ في الأصل منظفتي لكنها امرأة دَرَجْتُ على الاعتماد عليها ـ تُعِد الطعام في الطابق الأرضي، الذي أحب أن يكون جاهزًا بعد أن أكون قد انتهيت من آخر مريض في الفترة الصباحية.
دائمًا كنت أسعد برؤية هنري. ففي صحبته يمكنني الاسترخاء أو القيام بأشياء لا أهمية لها. بإمكانك أن تقول ما تحب، لكن كل زملائنا من المحللين يحاولون هذا لساعات طويلات. ربما أرى مريضي الأول في السادسة صباحًا. ولا أتوقف حتى الواحدة. بعد ذلك، أتناول الطعام، أسجل الملاحظات، أتمشى أو آخذ قيلولة، حتى يحين وقت الاستماع ثانيةً، وأستمر إلى بدايات الليل.
أستطيع أن أسمعه، إذ يدوي صوته من الطاولة التي بالخارج إلى جوار الباب الخلفي، قبل أن أكون في أي مكان بالقرب من المطبخ. مونولوجاته مصدر عذاب لماريا، التي، ولسوء حظها، تأخذ كل كلام الناس على محمل الجد.
’لو أنك كنت تفهمينني بالفعل، يا ماريا، وترين أن حياتي إذلال بشع، عدم.‘
’ليست هذا، بالتأكيد؟ مستر ريتشاردسون، رجلٌ مثلك ينبغي...‘
’أنا أقول لك بأنني أموت بالسرطان ومهنتي ليست سوى نكبة.‘
(ستأتي إلىّ فيما بعد وتهمس، بفزع، ’هل هو فعلاً سيموت بالسرطان؟‘
’لا، ليس ذلك ما أعرف.‘
’هل مهنته نكبة؟‘
’هناك أناس قليلون أكثر شهرة.‘
’لماذا يقول مثل هذه الأشياء؟ يالغرابة أطوارهم، هؤلاء الفنانين!‘)
ويواصل كلامه: ’ما، آخر عملين من إنتاجي، the Cosi، ورواية السيد ومارجريتا The Master and Margrita في نيويورك، أصاباني بالملل حد الموت. لقد حققا نجاحًا، لكنهما لم يكونا على درجة كافية من الصعوبة بالنسبة لي. ليس فيهما صراع، ليس فيهما مخاطرة الإبادة. أنا أحب ذلك!‘
’لا!‘
’ثم أحضر ابني إلى شقتي امرأة أجمل من هيلين ملكة طروادة! أنا مكروه في الكون كله ـ يبصق الغرباء في فمي المفتوح!‘
’أوه، لا، لا، لا!‘
’فقط انظري على الصحف. أنا مكروه أكثر من توني بلير، وهاك رجل يثير كراهية العالم.‘
’نعم، إنه بشع، الجميع يُقرون هذا، لكنك لم تُقدم على غزو أي إنسان، ولم تسمح بتعذيبهم في جوانتانامو. أنت محبوب!‘ وتأتي لحظة من التوقف, ’نعم، أنت ترى هذا، وتعرف هذا!‘
’لا أريد أن أحظى بالحب. أريد أن أكون مثارًا للرغبة. الحب أمان، لكن الرغبة غادرة وشريرة. "امنحيني منها بإسراف..." أبشع شيء، كلما قلت القدرة على الرغبة، كلما ازدادت على الحب، الشيء النقي. ليس ثم من أحد يفهمني سواك. هل تظنين أنه قد فات أوان أن أصبح شاذًا جنسيًا؟‘
’لا أعتقد أن هذا يقع في دائرة الاختيارات، يا مستر ريتشاردسون. لكن ينبغي عليك أن تستشير دكتور خان. سوف يكون هنا بعد قليل.‘
كانت الأبواب مفتوحة على حديقتي الصغيرة بأشجارها ومساحات العشب الأخضر فيها. كانت هناك أزهار على المنضدة بالخارج وكان هنري يجلس عليها، يتقدمه كرشه، كوسادة مريحة ترتاح عليها يداه، لو لم يكن يستعملهما في الهرش. على ركبتيه كانت تجلس، مارسيل، قطتي الرمادية، التي أهدتني ميريام إياها، قطة تريد أن تتشمم كل شيء، وكان لابد أن تُسحب دائمًا من الحجرة التي أرى فيها مرضايّ.
’لا أعتقد أن هناك أي كحول أبيض!‘ كان هنري يتحدث إلى نفسه، أو يتمتم بحرية، عبر ماريا، التي تصورت أن هذا الكلام جزءًا من حوار معها، بعد أن أتى بالفعل على نصف زجاجة من الخمر الجيد.
في المطبخ كنت أغسل يديّ. ’أريد أن أسكر،‘ استطعت أن أسمعه يقول. ’لقد أضعت عمري في الوقار. لقد بلغت السن التي تشعر النساء حولي فيها بالأمان! لذلك فالكحول يحسن حالتك المزاجية. يُحسن الحالة المزاجية للجميع.‘
’صحيح؟ لكنك أخبرتني، عندما دخلت، أنهم يريدونك في أوبرا باريس.‘
’سوف يأخذون أي شخص. ماريا، أنا مدرك أنك تحبين الثقافة أكثر مني بكثير. أنت حبيبة المقاعد الرخيصة، وكل صباح تمارسين القراءة في الباص. لكن الثقافة آيس كريم، فواصل للاستراحة بين فصول عرض مسرحي، متعهدين، نقاد، ونفس الملكات المتضجرات المتأنقات بإسراف اللائي يذهبن إلى كل شيء. هناك ثقافة، لا تعني شيئًا، وهناك الأرض الخراب. فقط غادري لندن أو قومي بتشغيل التليفزيون، وستجدينها. كائنات بشعة ومتعصبة وشبقة وغبية وأناس من طائفة بلير يقولون أنهم لا يفهمون الفن الحديث وملكنا في المستقبل، تشارلز الأحمق، يندفع صوب الماضي. في وقتٍ ما اعتقد أن الاثنان ربما يتوافقان معًا، العامة والصفوة. هل تصدقين ذلك؟ آه ماريا، كنت أعرف أن حياتي انتهت عندما قررت استخدام الألوان المائية ـ ‘
’على الأقل أنت لا تنظف الحمامات لتكسب قوت يومك. هيا، جرب هذه الطماطم. افتح فمك ولا تبصق.‘
’أوه، لذيذة. من أتيت بها؟‘
’من تيسكو. استخدم منديلا. لقد سالت كلها على لحيتك. أنت الآن جذاب للذباب من حولك!‘
كانت تطير الذباب بعيدًا عن. ’شكرًا لك، يا أمي،‘ قال. نظر لأعلى عندما جلست. ’جمال،‘ قال، ’كف عن الضحك وقل لي: هل قرأت السيمبوزيزم مؤخرًا؟‘
’اخرس، أيها الرجل الرديء، دع الدكتور يتناول طعامه،‘ قالت ماريا. ’إنه لم يضع حتى كسرة خبز واحدة في فمه بعد.‘ ظننت للحظة أنها سوف تضرب يده. ’لقد سمع الدكتور خان كلامًا كثيرًا صباح اليوم. إنه من العطف بحيث يسمح لهذا النوع من الناس أن يتحدثون على مسامعه، بينما ينبغي أن يُقيدوا بالحبال في مصحة الأمراض النفسية. يالقذارة بعضهم! عندما فتحت الباب، حتى الطبيعيين من الناس يحبون أن يطرحوا أسئلة عن الدكتور. أين يقضي إجازاته، أين ذهبت زوجته؟ لا يخرجون مني بشيء.‘
كنا نتناول الطعام. وكعادته، لم يستطع هنري أن يكف عن الكلام. ’"لقد سافرنا بجثة في عربتنا." يقول إبسن هنا إن الموتى ـ الموتى من الآباء، الموتى الأحياء، بالقطع ـ فعّالين بل وأكثر فعّالية وقوة من الأحياء.‘
غمغمت، ’نحن صنيع يد الآخرين.‘
’كيف تقتل أبًا ميتًا، إذًا؟ سيكون الإثم حينئذٍ بشع، أليس كذلك؟‘
’من المحتمل.‘
استأنف قائلاً: ’إن إبسن من طائفة الكتاب الواقعيين في هذه المسرحية. كيف ترمز إلى الأشباح؟ هل أنت بحاجة إلى ذلك؟‘ وكما كان غالبًا يفعل، مد هنري يده ليأكل من طبقي. ’هذا الجور الودود هو علامة بالتأكيد،‘ قال، وهو يرفع حبة فاصوليا، ’على رجل يستمتع بمشاركتك في زوجتك؟‘
’صحيح، مرحبًا.‘
لو أن مجرد الكلام يعتبر جماعًا لمن هم بكامل ثيابهم، فهنري قد كان، بالقطع، لديه وقتًا كافيًا؛ وهذه النزهات التاريخية كانت ممتعة وتدفع على الاسترخاء في وقت الغداء بالنسبة لي. عندما كانت ماريا تقوم بغسل الأطباق بعد أن رفعتها عن المائدة وكنت أنا وهنري نقلب صفحات الرياضة، أو ننظر من أزهار عباد الشمس المائلة بلطف والتي كان ابني رافي قد زرعها قبالة الحائط الخلفي لحديقتي الصغيرة، أصبح أقل انتشاء.
’أعرف أنك لا تعمل في وقت الغداء. لديك سلاطتك الخضراء. لديك كحول. نتحدث، أو على الأقل أنا أفعل ذلك. تناقش فقط مانشيستر يونايتد وعقول لاعبيه ومديريه، ثم تتمشى. ورغم ذلك، تسمعني.‘
’أنت تعرف أنني أكره العزلة. الصمت يصيبني بالجنون. لحسن الحظ أن ابني سام يعيش في مكاني منذ سنة تقريبًا. تصدعت علاقتنا بصورة مفاجئة عندما قرر أنه لا يستطيع أن يدفع الإيجار أو الفواتير. ذلك الطفل المزعج قد حصل على أعلى تعليم يمكن أن توفره له أموال أمه.
’كانت طفولته مخصصة للأجهزة الإليكترونية، وكما يمكن أن أكون قد أخبرتك، فهو يعمل جيدًا في إحدى القنوات التليفزيونية الحقيرة، التي تعمل لحساب شركة متخصصة في عرض التشوهات والجراحات التجميلية. ماذا يطلقون عليه، تليفزيون حوادث السيارات؟ هل تعرف ماذا قال في اليوم التالي؟ "أبي، ألا تعرف؟ زمن الفن الراقي قد انتهى."‘
’هل تصدقه؟‘ سألت.
’كم كانت قضمة كبيرة، مزقت منتصف وجودي. وكل ما آمنت به. كيف درج طفلاي على كراهية الثقافة الراقية؟ ليزا باحثة الفضيلة، تعيش على حمية الفاصوليا والماء المقطر. أنا متأكد حتى أن الأعضاء الجنسية اللعبة التي تستخدمها مصنوعة من مواد عضوية. ذات ليلة أخذتها على مضض منها إلى دار الأوبرا وبينما غرقنا نتنهد في مخمل المقاعد أصابها الدوار والهياج، لقد رأت العرض مفرطًا في التعقيد. راهنتُ على أن الوقت سيطول قبل أن تتمكن من استخدام كلمة "النخبة". اضطرت للمغادرة في فاصل الراحة. ابني الآخر يعشق سقط المتاع من الأعمال الفنية!‘
’هكذا؟‘
استأنف كلامه، ’على الأقل الولد بصحة جيدة، ونشيط، وليس غبيًا كما تعتقد. يأتي للعيش معي ويُحضر صديقته للإقامة معه، عندما تكون في لندن. لكن له صديقات أخريات. نذهب إلى المسرح، إلى مطعم، ويقيم علاقات صداقة مع فتيات أخريات أمامي. تعرف أنني كنت أفكر في إنتاج عمل، عن المستقبل البعيد غير المُتَخَيّل، لـ "دون جيوفاني". أرقد في السرير في الغرفة المجاورة له، واضعًا الهيدفون على أذنيّ، زاعقًا على الـ "دون" محاولاً أن أراه. سام يمارس الحب في معظم الليالي. في أول الليلة، في منتصفها، ومرة في الصباح على سبيل حسن الطالع. أسمعه، وأسترق السمع إلى ذلك. لا أستطيع أن أتجنب سماع الآهات الهائجة. لقد جربت موسيقى الحب دون فزع أو نوبات قذف مبتسرة وأنا شاب، وفي منتصف العمر في الحقيقة.
’ثم أرى الفتيات على الإفطار، يقارنّ الوجوه بالصرخات. واحدة، الأكثر اعتيادية بينهن، "كاتبة" لمجلات المودة، ذات بُف أمامي متجعد من الشعر الأشقر. ترتدي خُفًا وعباءة مبقعة باللون الأحمر تنفتح وأنا على وشك أن أخترق بيضتي. لأن قبلة واحدة من مثل هذا الخد تجعلك قادر على إغراق دير سانت مارك أو إحراق مائة فيرميير، لو كان هناك مائة منها. هذا،‘ قال، في النهاية، ’نوع من الجحيم، حتى بالنسبة لرجل بالغ مثلي، اعتاد أن يتلقى الضربات، وأن يواصل طريقه مثل جندي حقيقي للفنون.‘
’أفهم ذلك.‘
قال بدعائية كوميدية، وكأنه أنا، مع مريض، ’بما يُشعرك هذا تشعر؟‘
’إن هذا يجعلني أتخلص من الإحراج بالضحك.‘
’أنا أقرأ هذه الكتب المعاصرة لأعرف ماذا يحدث. لم أكن لأحلم بشرائها، الناشرون يرسلونها إليّ، وجميعها متخمة بأناس يثيرون الغرائز الجنسية. يا صديقي، هذه مُتَّع شاذة، تضم مخنسين، وكائنات من هذا القبيل، وأناس يبولون على بعضهم البعض أو يرتدون ملابس السخرة العسكرية، ويتظاهرون بأنهم من مقاتلي الصرب، وأسوأ. لن تصدق إلى ماذا وصل الناس هناك. لكن هل هم بالفعل؟ ليس من تتحدث عنهم.‘
’هم، هم بالفعل،‘ هأهأت.
’يا ربي. ما أريده،‘ قال، ’هو بعض الأفيون. لقد كنت أدخن السجائر لكنني أقلعت. لقد اختفت كل ملذاتي مع رذائلي. لا أستطيع النوم والأقراص أعيتني. أيمكنك التسجيل لي؟‘
’هنري، لست بحاجة لأن أصبح تاجرًا الآن. لدي وظيفة.‘
’أعرف، أعرف... لكن ـ‘
ابتسمت وقلت، ’هيا. لنتمشى.‘
مشينا معًا على امتداد الشارع، هو أطول مني بمقدار رأسه وأعرض بمقدار الثلث. كنت أنا مرتبًا مثل موظف، بشعر قصير شائك؛ عادةً ما كنت أرتدي قميصًا بياقة، وجاكت. كان يمشي متثاقلاً، بـ تي شيرت واسع جدًا: كان يبدو مترهلاً في كل مكان. ومع مواصلة المشي، كانت كسرات الخبز تسقط منه. يرتدي الحذاء بدون جوارب، لكن لم يكن يرتدي شرت، ليس اليوم. ذراعاه تحملان الكثير من الكتب، لروائيين بوسنيين، دفاتر ملاحظات لمخرجين مسرحيين بولنديين، شعراء أمريكان، وجرائد اشتراها من أفنيو المنتزه الهولندي ـ لي موند، كوريير دي لا سيرا، لا بيس ـ كان عائدًا إلى شقته المطلة على النهر.
مشى هنري متمايلاً حول بيوت الجيران وكأنه في قرية، حاملاً معه جوه الخاص ـ لقد تربى إحدى قرى سافولك ـ وباستمرار كان ينادي بعرض الشارع على شخصٍ ما أو آخر، وبين الحين والآخر، ينضم إليهم لتجاذب أطراف الحديث عن السياسة والفن. وحله لمسألة أن قليل من الناس في لندن تتحدث لغة إنجليزية يمكن فهمها الآن، كان يتخلص في أن يتعلم لغتهم. ’الطريقة الوحيدة للعيش في هذه المنطقة هو أن أتحدث البولندي،‘ أعلن مؤخرًا. عرف أيضًا البوسنية، والتشيكية والبرتغالية بصورة كافية كي يدخل إلى البارات والمحلات دون أن يضج، وكذلك ما يكفي من اللغات الأوربية الأخرى كي يشق طريقه دون أن يشعر بأنه مهمش في مدينته.
لقد عشت في نفس الصفحة من الألف إلى الياء طيلة حياتي في فترة النضج. في وقت الغداء كنت أحب أن أتمشى مرتين حول ساحات لعب التنس مثل العمال الآخرين. هذه المنطقة بين هاميرسميث وشيفردس باش، سمعت ذات مرة أنها وُصفت بأنها ’طريق ملتوية محاطة بالبؤس.‘ شخصٌ آخر اقترح توأمتها مع بوجوتا. هنري أطلق عليها ’مدينة شرق أوسطية عظيمة‘. الجو بالتأكيد كان دائم البرد هناك: في القرن السابع عشر، بعد عمليات الإعدام في تايبرن، بالقرب من ماربل آرك، ونُقِلت الجثث إلى شيفيردس باش جرين للعرض.
الآن تضم المنطقة مزيجًا من الأغنياء جدًا والفقراء جدًا، معظمهم من المهاجرين حديثًا من بولندا وأفريقيا الإسلامية. الأثرياء يعيشون في منازل من خمسة طوابق، بنايات بدت لي ضيقة، أضيق من بيوت الطرز الجورجية في شمال لندن. الفقراء يعيشون في نفس البنايات لكنها مقسمة إلى غرف منفصلات، ويضعون حليبهم طازجًا وأحذيتهم الرياضية على عتبات النوافذ.
المهاجرون القادمون حديثًا، حاملين ممتلكاتهم في حقائب بلاستيكية، غالبًا ما ينامون في الحدائق العامة؛ ليلاً، جنبًا إلى جنب مع الذئاب، ينقبون في مقالب النفايات عن طعام. الكحوليات والبندق يتم تسولها والشجار عليها في الشوارع باستمرار؛ تجار المخدرات ينتظرون على دراجاتهم على نواصي الشارع. دكاكين الأطعمة المعلبة الجديدة، والوكالات الحكومية والمطاعم قد بدأت تفتح أبوابها، وأيضًا محلات التجميل التي، التي اعتبرتها مؤشرًا إيجابيًا على ارتفاع أسعار السكن.
عندما واتتني الفرصة مرةٌ أخرى، أردت أن أتمشي في سوق شيفاردس باش، بما فيه من صفوف سيارات التأجير بسائقيها على امتداد طريق محطة جولدهاوك. امرأة محجبة من الشرق الأوسط كانت تتسوق في السوق، الذي يمكنك أن تشتري منه أثواب ضخمة من الأقمشة زاهية الألوان، وأحذية من جلد التمساح، ومجوهرات وملابس داخلية رخيصة وخشنة الملمس، ’أقراص سي دي ودي في دي مزيفة، ببغاوات وحقائب سفر، وكذلك صور مضيئة ثلاثية الأبعاد لمكة ويسوع. (ذات مرة، في مدينة مراكش القديمة، سُئلت ما إذا كنت قد رأيت شيئًا كهذا من قبل. لم أستطع إلا أن أرد بأنني قد قطعت هذه الطريق الطويلة فقط لأتذكر سوق شيفاردس باش.)
وبينما لا يمكن أن يشعر أحد بالسعادة في جولدهاوك روود، إلا أن آكسبريدج روود الذي يبعد عشر دقائق في تمام الاختلاف. على رأس السوق، أشتري فلافل وخطوة إلى داخل ذلك الشارع العريض غرب لندن حيث كانت المحلات كاريبية، وبولندية، وكشميرية وصومالية. على امتداد قسم الشرطة يوجد المسجد، حيث يمكنك أن ترى عبر أبوابه المفتوحة صفوف من الأحذية والمصلين. خلفه ملعب كرة القدم، الخاص بنادي كيو بي آر QPR (Queen Park Rangers)، إلى حيث كنا أحيانًا نذهب أنا ورافي لنُصاب بالإحباط. أحد المحلات أُمْطِر مؤخرًا بوابل من الطلقات النارية. ومنذ وقتٍ قريب اقترب ولدٌ من جوزفين على دراجته واختطف هاتفها المحمول من يدها. لكن باستثناء ذلك، كانت المنطقة هادئة رغم أنها صناعية، مع انشغال معظم الناس بالخطط والبيع. اندهشت لعدم وجود عنف أكثر، مع الوضع في الاعتبار أن أجزاء المنطقة كلها قابلة للاحتراق.
كانت رغبتي، التي لم تتحقق بصورة كبيرة، أن أعيش في رفاهية في أكثر مناطق المدينة فقرًا واختلاطا. دائمًا ما كانت التمشية هنا تسعدني. لم يكن هذا هو حي اليهود أو الأقلية بالمدينة؛ حي اليهود أو الأقلية في المدينة هو بيلجرافيا، نايتسبريدج وأجزاء من نوتينج هيل. هذه هي لندن المدينة العالمية.
قال هنري، قبل أن نفترق، ’جمال، تعرف أن أحد أسوأ الأشياء التي يمكن أن تحدث لممثل هو أن يطلع على خشبة المسرح ولا يكون هناك سوى الملل فقط، ولا إثارة. بشكلٍ ما يكون في أي مكانٍ آخر وما زال مشهد العاصفة في انتظاره كي يشرع فيه. الكلمات والحركات فارغة، وكيف لن يُفْهَم هذا؟ سأعترف بهذا لك، رغم صعوبة ذكره عليّ، إضافةً إلى شعوري بالخزي. لقد كان لديّ نصيب معقول من علاقات الليلة الواحدة. أليست أجساد الغرباء مفزعة! لكنني لم أنم مع امرأة بالمعنى المفهوم منذ خمس سنوات.‘
’هل هذا كل شيء؟ ستعود، شهيتك. أنت تعرف ذلك.‘
’لقد تأخر الوقت تمامًا. أليس صحيحًا أن الشخص الذي لا يستطيع الحب والجنس لا يستطيع الحياة؟ إنني أنضح فعلاً برائحة الموت.‘
’تلك النكهة أو الرائحة هي غداؤك. في الحقيقة، أشك أن شهيتك قد عادت فعلاً. وهذا ما يبرر حالة القلق الجامحة هذه.‘
’لو لم ترجع، فإلى اللقاء،‘ قال، وهو يسحب إصبعه بعرض حنجرته. ’هذا ليس تهديدًا، إنه وعد.‘
’سأرى ماذا أستطيع أن أفعل،‘ قلت ’في كلا الأمرين.‘
’أنت صديق حقيقي.‘
’اترك الحفلة عليّ.‘

ليست هناك تعليقات: