الأحد، 27 يوليو 2008

من رواية المطارات



’الجو بارد؛ فعلاً. وأنت تكره هذه الليالي الساكنات الباردات وتفاصيلها العارية من الضجيج والناس؛ لأنها تُحَتم عليك الجلوس وحيدًا في أسر ضلالاتك. تفرض عليك نوبات طويلة من الإعياء والخوف. تذكرك بظلال أولئك الذين مضوا بلا رجعة؛ أو هؤلاء المستعمرون خلاياك أبدا. المساكين الذين رأوك وأنت تقطع المسافات الطويلة، الطويلة جدّا صوب إيلامهم. مع أنهم كانوا لك، دائمًا، مثل علامات الطريق الفسفورية التي تهتدي بها في طرقاتك دائمة الظلمة، ثم بعد قليل تميل عليهم بعجلات سيارتك أو عجلات أي شيء وتهرسهم دونما وخزة ضمير واحدة. دائمًا كنت تردد مقولات الخاسرين. وتلعن الناس في بلادك، مكتملة المرارة، وتتهمهم بكثير من الثرثرة عن فكرة الضمير. دائمًا كنت تنتصف للوجود المادي الهش: ’لا يوجد شيء اسمه ضمير. إنه فكرة ترويض الفقراء والحمقى؛ لأجل الامتثال لنوعٍ ما من الاستقامة التي ينتفع بها المنتفعون من فئات وطبقات كثيرة.‘ الآن لا أحد هنا. بعد أن استنفذت كل أحِبَتك في مشروعات حياتيةٍ فاشلة. أحِبَتِك، أولئك الذين غالبتهم تجاهك أفكار كثيرة؛ تنتمي ـ في الحقيقة ـ لفكرة الضمير الأولى التي كنت تنعتها بالبدائية والرداءة.
في الحقيقة، أنت خير من يستهلك الحياة بجشع غير طبيعي. خلف نوافذ المستشفى المسيجة بالكريتال، لا ترى في الليل سوى أشباح أيامك الفائتة تروح وتجيء في الممرات التي تفصل بين بنايات المستشفى الثلاث. أشباح حية نابضة؛ تأتيك وتحاورك وتوبخك في أحايين كثيرة. وفي المساحات الخضراء التي تنتشر هنا وهناك. رفاقك في العنابر نيام؛ أصابهم الإعياء والخمول من جراء العقاقير التي يحقنون بها أو يتعاطونها في هيئة أقراص بأوامر من الأطباء، وتحت إشرافهم. كثيرون منهم أجهدهم المشي المتأمل في الحدائق الخلفية للمستشفى. أنت في منتهى الطاعة كعادتك؛ أعني كعادتك الجديدة....

لم يكن عيسى طيعًا هكذا حين صفع الدكتور بشير عيد على وجهه؛ عندما قال له بشير، "لا أنت مصري ولا مغربي. من أي مواخير البلاد البعيدة أتت بك أمك؟" كانت هذه الجملة هي التي انتهى عندها جدلٌ طويل بينه وبين بشير حول هجرات بعض عائلات من البربر إلى مصر في مطلع القرن الماضي. جملة قالها بشير بفصاحة فظة مصحوبة برذاذ عفوي أمطر وجه عيسى. بشير عيد الذي كان يسقط في فخاخ غيرة هائجة في كل مرة يرى فيها عيسى وقد تجمع حوله الطلاب، والطالبات تحديدًا. ذلك أن سمرة بشير عيد الداكنة وغلظته التي لم يتنازل عنها قط منذ أن أتى إلى الجامعة في مطلع الستينيات، وكذا جحوظ عينيه بصورة ملفتة وشفتيه الغليظتين التي ما إن تفترقان عن بعضهما حتى يندفع رذاذه العفوي مع مفرداته المسننة بفصاحتها الكوميدية، كثيرًا ما رسمت ابتسامة سخرية غير مقصودة على وجه عيسى في أي لقاء يجمع بينهما. وقبل أن يتم تحويله لمجلس التأديب الذي تقرر انعقاده له بعد أيام كان قد قدم استقالته التي قوبلت بترحاب شديد من مجلس القسم. أجمع كل الزملاء؛ بغض النظر عن الحيدة أو الانحياز أو الغيرة، على أنه لا يصلح في مكانه كعضو هيئة تدريس. وأنهم كلما دخلوا عليه مكتبه وجدوه يجالس إحدى الطالبات. ’الغريب أنه لم يكن يجالس قط غير الجميلات. كل مريداته كن جميلات!! الحمد لله أنه قدم استقالته بنفسه. لقد كان عبئًا كبيرًا على القسم....‘، هكذا قال أحدهم وهو يمصمص شفتيه بارتياح وكأنه خرج لتوه ظافرًا من معركة ضد خصم عنيد أنهكه. سعد، عامل البوفيه هو الشخص الوحيد الذي انزعج لاستقالته من عمله بالكلية؛ ربما لأنه كان مفرطًا تمامًا معه في النقود؛ أو ربما لأنهما كانا "بلديات" كما اعتاد سعد أن يردد دائمًا بين الطلاب والطالبات على سبيل المفاخرة. المفاخرة برجل طاولت جاذبيته، في المكان، جاذبية نجم سينمائي لامع في محيطه القومي. الأهم من ذلك كله أن سعد كان الوريث الوحيد لكل القمصان والبنطلونات القديمة الخاصة به. كان عضو هيئة التدريس الذي يسمح لـ "سعد" بالجلوس أمامه ليحكي عن زوجته وهمومه، والعيال والمدارس؛ وكل شيء.
«
كعادتك الجديدة.... لا تخالف الأوامر ولا تتجاوز القوانين. قوانين المستشفى. رغم أنك تجاوزت، بالطبع فيما مضى قبل أن تأتي إلى هنا، قوانين كثيرة. حتى طاعتك والتزامك بلوائح المستشفى كان، في حقيقة الأمر، ظاهريًا. هل تذكر كم من الوقت أمضيت هنا. هنا خلف أسوار هذا المكان الممتد الهادئ. بالطبع ستدعيّ أنك لا تعرف؛ لأنك مورطٌ منذ سنوات في محاولات يائسة لنسيان الزمن والأحداث، والأشخاص أيضًا. أتذكر آخر زائريك من خارج المستشفى؟ بالطبع لا. لأنك لا تريد أن تتذكر. لأن كل ذكرى جرح، وكل جرح كان، ولم يزل، شجًا عميقًا بشفرة موسي شحذته جيدًا قبل أن تصوبه بنجاح على أهدافك الكثيرة. لم تخطيء هدفًا البتة. الغريب أنك بالفعل لا تذكر متى تعلمت مهارتك الخرافية في رشق أهدافك بالجراح. جريحة وحيدة ظلت تأتيك في مواعيد نصف شهرية للزيارة. كثيرًا ما كنت ترفض النزول إلى الحديقة الخلفية لمقابلتها. لأنك تخافها. هي الوحيدة القادرة على إفشال كل محاولاتك للنسيان. إن مجرد زيارتها ومعرفتك بأنها في انتظارك لم يزل كافيًا لإفشال محاولة كنت قد بدأتها منذ يومين بجرعة مضاعفة من الماكس والهيروين معًا، آخر جرعة تعاطيتها حقنًا. وفرتها لك أم نادية بعد أن نقدتها مبلغًا كبيرًا ـ مئة وعشرين جنيهًا كاملة؛ هم حصيلة بيعك لخاتم زواجك الذي كنت تحتفظ به. لم يزل أثره في خنصر يدك اليسرى. ضحيت به؛ لا يهم. فأنت من افتتحت مزاد التضحيات بكل شيء ـ هذا بالإضافة إلى نوبة ليلية من العبث بجسدها اليابس. فشلت هذه المحاولة أيضًا؛ حينما أبلغوك بأن رضا تنتظرك في الحديقة الخلفية. حاولت أن تنظر عليها عبر كريتال النافذة، غير أنك لم تستطع أن ترى شيئًا. هل كنت تشعر برغبة حقيقية في رؤيتها عندما نزلت إلى الطابق الثاني؟! أظن أنك كنت تريد أن تستفز كرمها ـ كالعادة ـ كي تضع في جيبك ما تيسر من حصيلة عملها في المطعم العائم طيلة شهر بأكمله. وأنت تهبط درجات السلم قابلتك دكتورة بثينة بابتسامتها التي اعتدتها منذ سنوات؛ كانت تعدل من هندامها. الابتسامة المعتادة. كانت خارجة من غرفة مدير المستشفى. ربما نجحت في تعديل هيئتها، لكنها لم تنتبه للبقعة اللزجة التي أعطت لون جونلتها الحمراء درجة أكثر قتامة. وقعت عيناك الزرقاوان العميقتان على البقعة اللزجة. كيف استشعرت لزوجتها. اللزوجة صفة تحُس باللمس، أما أن ترى اللزوجة بعينيك فهذه مهارة جديدة لم تكن ضمن مهاراتك السابقات. أو ربما أصابك مرض جديد بدل وظائف الحواس عندك. أنت من هؤلاء المتفردين. الأول بين أفراد عائلتك الذي يعرف الإحساس بالانتشاء من جراء العقاقير والمخدرات الطبيعية والتخليقية. أنت الذي جعلتها تلتفت حينما انفلت منك Fix Cadre طويل على موضع البقعة اللزجة أعلى جوبتها الضيقة. ابتسمت بخفة فأدركتْ أنك لمست بعينيك لزوجة السائل الذي بقع جونلتها فألقت بعينيها تحت حذائها ووثبت مذعورة تصعد إلى الطابق الرابع حيث سكن الطبيبات. وأنت تهبط درجات السلم صوب الطابق الأول، اصطدمت بكتلة بشرية ضخمة، لأنك كنت شاردًا في تخيلاتك حول ما كان يحدث قبل قليل بين بثينة ونشأت، مدير المستشفى. هذه الكتلة البشرية كانت حسنية، من غيرها يملك هذا الجسم الهضبي الضخم بطوله الفارع. الشحوم والدهون التي اختزنتها في جسمها من العيش على مطبخ المستشفى؛ هي تشبه القطط السمينة الفادحة التي تتحرك بين أبنية المستشفى كلها. رغم ذلك كانت حركتها رشيقة بصورة ملفتة للنظر. شاهدتها كثيرًا وهي تكبح جماح المرضى في أشد نوبات الصرع والهياج. رجالاً أو نساء. لا فرق. لكنها لم تستطع أن تحكم قبضتها عليك. لأول مرة ينتصر مريض على قبضتها القوية. يومها لكمتها في بطنها بقوة، وبصقت على وجهها. الغريب أنها لم تغضب منك أو تحنق عليك كعادتها حينما تكون مقاومة المريض أو المريضة قوية. فيما بعد اعتذرت لك وأبدت إعجابها بلون عينيك. لم ترفع عينيها عن صدرك النافر من تحت التي ـ شيرت الأبيض الضيق؛ وانتفاخات العضلات في ساعديك. تَعَجَبَتْ لأن إدمانك لم يأت على جثتك المخيفة هذه. كعادتك، تركتها تزحف نحوك بغرائزها. لم تكن تتكلم. لم ترفض امرأة في حياتك. حتى حسنية بجسدها المترهل وصوتها الرجولي الخشن، ونسويتها القابضة للروح التي تبعث على الغثيان، لم ترفضها. دائمًا كانت حقيبة يدها عامرة بالسجائر. حتى أنها غيرت نوع السجائر الذي تدخنه لأجلك. كما أنت دائمًا، حتى وأنت نزيل هذا المشفى النفسي الكبير، تفكر بنفس القيم الانتهازية، "القرش الأبيض ينفع في النهار الأسود". لسبب ما أو لآخر، غير مقنع بالتأكيد، أحبتك مها. لاقت كثيرًا من اللوم على عاطفتها تجاهك. كان ارتباطها بك مثيرًا للدهشة. ربما لأنك تملك وسامة خاطفة. الطفرة الجينية غير المسبوقة في عائلتك. لم تستطع مقاومتها مثل أخريات كثيرات لم يستطعن. ربما لأنها شعرت تجاهك بالتعاطف أو الشفقة؛ صحيح ما هو الفارق بين الإحساس بالتعاطف والإحساس بالشفقة؟ أنت لم تجرب أيهما مطلقًا. أعني لم تكن مصدرًا لأيهما مطلقًا. لم تجربهما إلا حينما اصطف المعزون لمواساتك في مها. يومها استطعت أن تلمس ملامح الوجه القبيح للشفقة. أنت الذي لم تؤمن بأحد ولا شيء على الإطلاق. كنت تتلقى المحبة من الجميع، بينما تضن بها على الجميع. كنت منتفخًا لدرجة جعلتك تصف كل الأحاسيس الجميلة بأنها نوع من البلاهة والهشاشة. ورغم أنك أبدًا لم تغلق الباب قط في وجه امرأة أيًا كانت إلا أنك كنت ذبيح عزلتك وفتورك لسنوات طوال.


***

رضا كانت تنتظرك في الحديقة الخلفية. والطفل الذي كان يمسك ببلوزتها من الخلف، كان عمر. ابنكما. عمر بشعره الذهبي الناعم وأنفه الدقيقة وشفتيه الورديتين الرفيعتين. هو ابنك تمامًا دون الحاجة إلى الـ DNA أو أي نوع آخر من تحاليل الدم البسيطة أو المعقدة. خريطته الجينية تتطابق وخريطتك تمامًا. حتى أصغر أصابع قدمه اليسرى كان يختبئ تحت الإصبع الأكبر الذي يسبقه. إلى هذا الحد نجحت رضا في استنساخك داخل أحشائها. عمر كله أنت. العينان الغارقتان في زرقتهما السماوية ـ أداتك الأولى في اختراق أي امرأة. أي امرأة! ـ الجبهة العريضة المزدانة بتنورة من الشعر الذهبي اللامع. الأنف الدقيقة المقوسة قليلاً عند أرنبتها. الأذن الصغيرة والبناء الجسماني الفارع الذي لم يكن لأبيك أي علاقة به، ربما كان هذا كله بسبب تدفق الدم الأيرلندي بغزارة عبر إيريني، أمك ـ رضا هي التي قررت الاحتفاظ به في أحشائها. قالت إنه ذكراها الوحيدة منك؛ ذلك ليقينها الكامل بأنك لن تدم لها طويلاً، وإنها ستكفله. وعدتك ألا تطلب منك شيئًا، مقابل الذهاب إلى مكتب الصحة وتسجيله باسمك. المجنونة رضا! التي ظلت تحبك وتتبع أخبارك في أرض الله الواسعة التي سافرت إليها. لا لشيء فقط لتخبرك أنها هناك في مكانٍ ما تنتظرك هي وابنها. حقيقةً، أقنعت نفسك بالسفر لجمع المال. لكن الأمر لم يكن هكذا. لأنك لم تكن بحاجة إليه. كنت تهرب بكل ما أوتيت من قوة. تهرب. لأنك لم تترك مكانًا واحدًا بلا ذاكرة. حتى غرفة الطابق الثالث في حي بين السرايات لم تتركها دون ذاكرة. اخترت أضيق شوارع بين السرايات للسُكْنَى. كنت تَدعيّ أن الشوارع الضيقة هي طريقتك الوحيدة للدفء. بينما كانت في حقيقة الأمر ـ الشوارع الضيقة بالطبع ـ هي طريقتك الوحيدة في صناعة ذكريات مطاردة الغربة. هنا فقط في الزحام تستطيع العيش بكل قوتك. أحقًا للزحام مقدرة خرافية على ستر العورات؟ منذ يومك الأول في بين السرايات وهي تقف في البلكونة المقابلة لشقتك الصغيرة ذات الغرفة الواحدة. كنت تعرف أنها تقف قبالتك في انتظار إشارة البدء. البدء فيما تصبو إليه أنت. هي أيضًا كانت جاهزة للارتماء في أحضان الغرباء. لماذا الغرباء تحديدًا. هل صحيح أن للغرباء نكهة أخرى جديدة؛ تشبه نكهة الأزهار الربيعية، أو المطر الموسمي، أو الفاكهة النادرة التي تأتي وتروح في سرعة خاطفة؟ ’فتاة عاشقة لتراجيديا المشاعر.‘ هكذا كنت تصفها. الطلاب الذين يجيئون من الأقاليم البعيدة بطبائعهم الجديدة الموزعة بين محبة اللهو والاجتهاد، الحرية بعيدًا عن تقاليد الأهل، ونظامية البيوت الريفية. كانوا يأتون إلى هناك، في بين السرايات بلهجاتهم القروية ثم ما تلبث لهجتهم أن تتبدل بلكنة هجينية جديدة تقع على شفير ما بين ريفيتهم الغريبة وقاهريتهم الدعائية. أظنك كنت مختلفًا قليلا. لم يكن هناك من يستطيع أن يمايز بينك وبين أي قاهري أصيل. لهجتك الحضرية. ملابسك العصرية جدًا. عطورك الفاقعة التي تشي بشخصية عاشقة للبروباجلندا. أستاذك في مادة الدراما قالها لك في ثالث محاضراته للفرقة الأولى في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية 1984: "You are a nauseating propagandist" وقتها لم تكن تعرف معنى كلمة nauseating ولم تكن مُلمًا تمامًا بالدلالة السلبية لكلمة propagandist. لذلك تلقيت إهانته لك بابتسامة ساذجة بلهاء متصورًا أنه يطري عليك. أبدًا لم تتخيل أن هناك من يستطيع توبيخك. كنت تعرف أن عطورك تندفع في المسافة الضيقة بين شرفة شقتك وشرفة شقتها فتخدرها. منذ أن عرفت أنها وحيدة في شقتها وأنت تتسلل إليها بطيفك فقط، حتى تأتيك هي بجسدها كاملاً غير منقوصًا. بالطبع كنت تعرف أنها تعيش حياة فارغة رغم ازدحام شقتها طول اليوم ببنات الشارع المراهقات. الحياة غير المعبدة بالحب والألفة تجعل الإنسان دائمًا في قائمة انتظار حمقاء، يتربصون بأي إشارة ساذجة من عابر سبيل مثلك. حينما ألقيت عليها السلام للمرة الأولى بعد شهر من الإقامة في جوارها، ابتهجت وردت عليك السلام بفرح طفولي. انتظرتك بعدها أن تفتح باب الكلام إلا أنك لم تفعل. التجاهل والتعالي هما أداتيك البدائيتين في التفخيخ لصيدك القادم.
ـ صباح الخير، لو كانت البلكونة بتزعجك وبتقَيِّد حركتك ممكن أقفلها خالص.
ـ لا أبدًا.
ـ هو حضرتك من القاهرة؟
ـ لأ، أنا بشتغل هنا. معيد في الجامعة، وضروري كنت أسكن في مكان قريب من الشغل.
ـ متجوز.
ـ لأ.
ـ أكيد بتقابل مشاكل كتيرة في المعيشة، أقصد يعني الأكل وتنضيف الملابس، وترتيب الشقة.
ـ عادي، المطاعم كتيرة والمغاسل. وآهي ماشية على أي حال. كنت بس عاوز منك خدمة بدون تكليف. لو ممكن تكتبي في الكراسة ديه طريقة تحضير كام أكلة سهلة وسريعة لأني أحيانًا بمل من أكل المطاعم.
ـ ممكن جدًا، وممكن كمان ما تتعبش نفسك، لو تقول نفسِك تاكل إيه من وقت للتاني وأنا أحضرهولك.
ـ بس موش عاوز أتعبك.
ـ لأ أبدًا. الناس لبعضيها.
ـ طيب متشكر جدًا على ذوقك.
ـ العفو معملناش حاجة.
بعد أول حوار لها مع عيسى دخلت إلى غرفتها وأغلقت شرفة شقتها المطلة على شقته وارتمت في سريرها ـ وفي ذاكرتها كل مشاهد الأبيض والأسود لممثلات ارتمين على أسرتهن بعد مسة الحب الأولى ـ ولديها شعورٌ بالفرح ربما لم يكن مجهول المصدر، لكنه كان مجهول المبررات. شردت بعيدًا وعلى شفتيها ابتسامة رضا وامتنان لم تكن تعرف إلى من تتجه بها. بعد قليل نهضت عن سريرها، ووقفت أمام المرآة وأخذت تمرر أصابعها على وجهها وكأنها تستكشف قسماته للمرة الأولى. وأخذت تتمتم: ’انتي تخنتي قوي با بت. القعدة وحشة وقلة الحركة. المفروض تقللي شوية من أكل العيش والرز والمكرونة....‘ أخذت تدور أمام المرآة، ثم أعطت ظهرها كاملاً لها، وبدأت تُحكم شد جلبابها على خصرها ومؤخرتها: ’بس أنا موش تخينة قوي.‘ تخلصت من جلبابها القطني الواسع وانثنت لتتحرى بأصابعها الشعر الزائد في ساقيها، وتحت إبطها. تأففت من رائحة عرقها الصيفي وكأنه رائحة عرق شخص آخر داهمها في أتوبيس عام أو عربة مترو. وفتحت خزانة ملابسها القديمة ـ ميراثها من أمها؛ كثيرًا ما كانت تأخذها الأحلام إلى بيت به غرفة نوم جديدة لامعة ذات دولاب كبير تصطف به ملابسها جنبًا إلى جنب مع ملابس رجل ما يشاركها السرير، وشاي العصاري ومسلسلات التليفزيون اليومية ـ وأخرجت قميص أسود قصير ـ شاهدت سعاد حسني ترتديه أمام رشدي أباظة في فيلم صغيرة على الحب؛ ودون هدف واضح ذهبت في صحبة إحدى صديقاتها إلى سوق العتبة واشترت مثله. ومنذ أن اشترته جربته مرة واحدة لتتأكد من المقاس ودفنته في خزانتها ـ دلفت به بسرعة إلى الحمام؛ بعد دقائق خرجت وأخذت تفتش ثلاجتها عن المتاح من الطعام. وأخرجت كل ما وجدته وبدأت الاستغراق في الطهي. كانت مستغرقة تمامًا، لدرجة أنها بين الحين والآخر، كانت تردد: ’ثواني يا حبيبي. الأكل على النار. أنا عارفة انك راجع جعان قوي.‘ عندما تأكدت من خلو الشارع من المارة، ارتدت أحب فساتينها إلى قلبها وحملت جهد ساعتين في مطبخها الفقير ونزلت تستهدف شقة عيسى، جارها/ زوجها المُتَخَيَّل.
رضا كانت تدرك جيدًا أنه لن تحبها. لكن ثمة شيء أكبر بكثير جدًا من الحب والكراهية جعلها تمنحه كل شيء في ليلتها الأولى معه، دفعةً واحدة دونما مكابرة أو طلب منه. كانت تعرف أنها أصغر منه بكثير في كل شيء. تشبثت به وكأنها جرو صغير في ليلة شتائية مطيرة. جرو يتيم إلا من العراء والبرد. إلا من الحلم برجل مثله له عطر يعبر نافذته باتجاه شرفتها المفتوحة، دائمًا حتى في الشتاء، وينسل إلى إليها مخترقًا مسامها ومفضيًا إلى رعشة لا تنتهي إلا في فجر اليوم التالي حين يدخل عليها حسان، أخيها، فتتبدل كيمياء الهواء حولها وتعصف رائحة البيرة التي تنشع من فمه ونسيج ملابسه لتملأ الشقة الضيقة. وتقترب أكثر وأكثر لتغزو سريرها الذي يرتمي فيه دون أن يخلع حذائه. ذات مرة خلعت له الحذاء فنضحت قدماه برائحة طردت رائحة الكحول التي كانت قد طردت قبل قليل عطر عيسى. ولم تجد ما ينقذها من رائحة جوربه سوى أن تعيد قدميه إلى الحذاء من جديد.