الاثنين، 25 أغسطس 2008

بهاء جاهين يكتب عن (مدن فارهة للنسيان)


حين تتحول قصيدة النثر إلى سيمفونية
بهاء جاهين

الشعر فى معظم الاحيان أحادى كصوت الكمان، والشاعر الذى يجد رؤيته مركبة ومعقدة كثيراً ما يلجأ إلى المسرح، أو يعمد إلى استضافة بعض تقنيات المسرح - بالذات الحوار وتعدد الأصوات - فى قصيدته। لكن من النادر أن يلجأ شاعر إلى استلهام فن غير لغوى فى بناء قصيدته। وهذا ما فعله طاهر البربرى فى ديوانه «مدن فارهة للنسيان» (كتابات جديدة، 2001) حين حاول إخراج قصيدة طويلة مركبة الرؤية فى خمس حركات كالسيمفونية وأن يجعل كل حركة ذات مذاق موسيقى وموقف معنوى خاص يميزها عما قبلها أو بعدها.
ولكن قبل أن نرى معاً لماذا اختار طاهر البربرى الشكل السيمفونى لقصيدته الديوان وإلى أى حد جاءت الحركات الخمس مبررة لاختياره هذا ومبرزة وجاهته الفنية، دعونا أولاً نتعرف على الشاعر. طاهر البربرى شاعر ومترجم مصرى من مواليد شبين الكوم 1970. درس الأدب الانجليزى بكلية الآداب جامعة المنوفية، وعمل مدرساً للغة الانجليزية بمركز اللغات والترجمة بالأكاديمية المصرية للفنون، وله ديوان سبق الذى نحن بصدده، هو توقيعات على جسد المساء (1997).
وترجم إلى الانجليزية ديوان الشاعر رفعت سلام «إنها تومئ لى» (1994) وإلى العربية «أرض المساء» (مختارات من شعر د. هـ. لورانس) ورواية «إله الأشياء الصغيرة» (الفائزة بجائزة بوكر 1997).
إذن فهو شاعر مطلع على الادب العالمى، وبلغة كتابته فى كثير من الأحيان. بل وأعتقد من قراءتى لهذه القصيدة الديوان «مدن فارهة للنسيان» أن اختياره للشكل السيمفونى لم يكن اعتباطاً ولم يكن مقحماً على التجربة الشعرية بل يعكس محاكاة واعية لهذا الفن الموسيقى لا تتأتى إلا لكاتب عاشرته أذنه ووجدانه طويلاً. فنحن إذا تأملنا بداية القصيدة لوجدنا فيها النبرة العالية لمفتتح الحركة الاولى للسيمفونية خاصة عند الرومانسيين وعلى رأسهم بيتهوفن :
كأننى أبعث حياً
كأنما مدن فارهة للنسيان
على نهديك احتضنتنى
لكأننى أسمع افتتاحية سيمفونية بيتهوفن الخامسة، ولعلك إذا كنت من محبى ومعاشرى الموسيقى الكلاسيكية تسمعها معى الآن. ولكن بداية عالية النبرة لا تصلح فى ذاتها تبريراً لاختيار شكل موسيقى واستلهامه فى بناء قصيدة.
فهل جاء تقسيم القصيدة إلى خمس حركات مبتسراً ومفروضاً عليها أم استطاع الشاعر فى القصيدة ذاتها أن يبرره فنياً ؟ أو بعبارة أخرى، هل جاءت كل حركة استطراداً لما قبلها أم تميزت شكلاً ومضموناً كما تتميز كل حركة فى بناء السيمفونية عن باقى الحركات ؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال من خلال الديوان نفسه يحسن بنا أن نتأمل موضوع القصيدة. القصيدة باختصار تلخيص لتجربة حب. ولكنها ليست تجربة حب بسيطة بل مركبة : فهى ليست مجرد انجذاب لامرأة تطور إلى ارتباط عاطفى وجنسى بها، بل هى هروب من هزيمة العاشق أمام واقع يرفضه إلى احضان امرأة جعلها المرفأ والعقيدة والوطن و«مدناً فارهة للنسيان» :
هل قلت لكم :
إننى هرم
وإننى اصطدت هذه المرأة
بآخر شهقة لليسارى
قبيل القصف بقليل ؟
الحركة الثالثة - ص 53
وهى قصيدة حب مركبة أيضاً لأنها ليست تعبيراً أحادياً عن امتنان بالمعشوق أو سأمه أو اكتشاف لخدعة الحب بل هى سيرة كاملة لتجربة عاطفية غير خالصة لوجه الحب تخبطت بين كل حالات الفتنة والملال والشك وتأثرت طوال الوقت بواقع مخيف هرب منه الشاعر لكنه يطارده فى أحضان الحبيبة. فكيف صاغ الشاعر تقلبات هذا الحب وأحواله ومطاردة العالم الوحشى له فى الحركات الخمس لبنائه السيمفونى ؟
الحركة الأولى :
تعكس بداية القصيدة أمل الشاعر فى أن ينجح هروبه إلى أحضان المرأة التى اختارها محبوبة فى إنقاذه من صياغة الوجودى وهزيمته السياسية :
نحن على موعد
فافرحوا
لأنسخ بجوار جسدها، جسدى
لأستر عورتى بالود
وأفسد : هاتان العينان قاسيتان . لماذا ؟
الحبيبة رفرفت على طرف الوسادة. متى ؟
وكيف التقطتنى، بقبلة، من مخيم العناء
( ص - 10)
والشاعر يجعلنا نفهم منذ البداية أننا لسنا بصدد قصيدة حب بسيطة، بل ربما هى ليست قصيدة حب على الإطلاق؛ ربما كان ظاهرها الحب وباطنها البطش، ظاهرها امرأة وباطنها وطن :
ما أبرد الشارع
حين تدهمنى نظرة المخبر
المرابط فى معطفه الرث
ما أدفأ يدى
حين تنام تحت إبطيك ،
تنام !
( ص - 17)
والشاعر فى هذه الحركة الأولى يتنازعه الأمل والخوف : الأمل فى انتصار حبهما على واقع جهم متوحش شهد هزائم على كل المستويات، والخوف من أن يقتل الوحش الجميلة، أو يقتل الواقع الهاربين منه إلى عش من دفء القلب. فبينما يسجع الفلوت هامساً:
ليست شتوتنا الأخيرة
سننزح سوياً الماء الذى داهمنا فجراً
ليست شتوتنا الأخيرة
غداً سنفتح بابنا للأصدقاء
ستقدمين الشاى
بجلال يفضحه التثاؤب
سيغادرون حالاً
لأعود إلى خلوتك
وأنسل خلسة بين نقوش الجلباب
(ص 14)
بينما يهمس الفلوت بهذا، يعصف البيانو محتجاً فى نهاية الحركة الأولى :
يا الرومانسية التى ارتضت
رجلاً باهظ الجنون
أى خرافه
سأسربها، لأحيل الضجيج الذى يهاجسك
إلى موسيقى ؟
ثم أى رجل ستحاصرين
لو أن الرصاصة التى طاشت بيننا
سكنت عنقى ؟
(ص 27)
الحركة الثانية :
إذن هو حب تحت الرصاص. وإذن هو شعر درامى - وإن لم يلجأ للحوار - لأن صوت الشاعر فيه يتبدل بتبدل أحوال الخوف والرجاء والعشق والملال. وهذا فى حد ذاته مبرر لاختيار صيغة سيمفونية :
لأننا لسنا بإزاء ناى تحت جميزه أو كمان فى حجرة مغلقة، بل يهدر الشاعر أحياناً كالبيانو ويدق ساعات كالفلوت. ولكن كل هذا لا يكفى ليكون هذا الديوان / القصيدة سيمفونية بحق. إذ لابد كما اتفقنا أن تختلف كل حركة من حركات قصيدة السيمفونية الخمس عما سواها. فهل جاءت الحركة الثانية مختلفة عن التى سبقتها أم كانت مجرد استطراد لها ؟
فى الحركة الأولى كان الحب طازجاً، وكان الشعر يعكس استقبال الشاعر له فى فرحة يكاد يفسدها الخوف، وأمل قلق لا يستقر كعصفور على غصن شجرة تحت الرصاص. أما هنا فقد هدأ الحب بما يكفى للتأمل.. وللاستسلام أيضاً لليأس من جدوى محاولة بناء عش فى شجرة يداهمها الرصاص :
أتذكرين القبلة الأولى ؟
كنت أشتهى حنيناً أكبر
أبهذه السهولة
تسيل أيامنا
ما بين غرق فى شهوة القيظ
وبكاء يافع بالندم ؟
............لو كنا دراويش
لكان الهواء ممكناً
.............
لكننا كنا نتقافز
خشية الموت
عاريين حتى
من النخلة التى
إلى جوارها
ولدنا
)ص ص- 32 : 35) )
هذا التأمل لا يتأتى إلا حين يبرد الحب. والحركة الثانية برمتها هى الحركة المضادة للبندول فى ردة فعل لتوهج المشاعر فى الحركة الأولى التى كان حتى الخوف فيها متوهجاً كالحب. أما هنا فالـمُلك لليأس ولشعور طاغ باللا جدوى يصل قرب نهاية الحركة إلى قرار بالفراق :
لن نلتقى بعد
ليس لدى الغرفة ما نسرقه
ليس لدى أجسادنا ما نفضحه
ندبتان على رد فيك
وورم مراهق فى حلمتى
ص 41)
إنها الملالة الحتمية التى تعقب النشوة الاولى. لكنها هنا ملالة تسمح للعاشق الهارب من العالم لأحضان المرأة الوطن أن يرى بعينين بارزتين سخافة المحاولة :
هى ذى ملامحنا
بعد عشرين عاماً
تقف على الابواب
غريبة
مشدوهة
مخدوشة بالمخاوف
التى تدحرجت عليها
قبل عشرين عام
نهاية الحركة الثانية - ص 44
الحركة الثالثة :
حتى الآن استطاع الشاعر أن يحاكى بحق البناء السيمفونى فى قصيدته. فماذا أضافت الحركة الثالثة ؟ وهل نجحت هى أيضاً فى أن تأتى كتنويعه نغمية فى إطار وحدة الموضوع عادت القصيدة فى حركتها الثالثة إلى السخونة وفقدت نبرتها التأملية التى تميزت بها الحركة الثانية. ذلك أن القرار النظرى بحتمية الفراق لا يأتى عملاً عقلياً بارداً حين نحاوله فى الواقع الحى. لقد فشل الشاعر فى هجر محبوبته رغم السآمة، والنتيجة التى وصل إليها المنطق البارد. وأسقطت المحبوبة بدورها جنين العاشق، ربما لأنها قرأت فى عينيه أو فى وجه الواقع أنه طفل بلا مستقبل. رغم كل هذا، استمرت العلاقة - كما تحكى القصيدة - وعاد التوهج الشعورى ولكنه توهج الجرح المنكوء لا القلب المضئ :
السيمفونيون جميعاً
مبتهجون بالعزف
بالمدن الفارهة التى تتقافز
فوق الأوتار
ممسوسة بواهب الأسى
لا نسيان فيها
السميفونيون كل ليلة
ينكأون الجرح الذى
كل ليلة
أضمده بخبال الكحول
يذكروننى
بقيح التآريخ
وكناسة التفاصيل
بجسدين انهمكا عاماً كاملاً
فى صياغة أحبولة ..
ص ص - 58، 59)
الحركة الرابعة :
فى هذه الحركة القصيرة يعود الرضا عن المحبوبة، وهى عودة تبررها طبيعة الحب وتقلباته الشهيرة. ولكنه ليس رضا المفتون، بل رضا الإلف وقد ألف العش وارتاح إلى إلفه دون أن ينسى لحظة ما يحدث فى الخارج :
أنت فرحة جلبتها من الجبال
كى تشد من أزر الفتى المطرود
وتبتكر له فكاهة تعصمه من الجهامة
ص (65)
ولكن مع كل تقلبات الحب وانعكاس كل حال من أحواله على حركة من حركات القصيد السيمفونى، تظل الحقيقة واحدة وإن تعددت وتنوعت العواطف والحالات المزاجية التى تكتنفها. إنه حب مطارد ومجنون وبقاؤه يكاد يكون ضرباً من المحال :
أنا - بالكاد – أصدق
ما قاله جسدى
عن المجاعة؛
فكيف لى
أن أبيح مخيلتى
لامرأة تتفصدها
الفانتازيا ؟ ( ص - 71)
الحركة الخامسة :
تصور هذه الحركة الحب فى حال جديد هو حال البعد، حيث يزيد الاقتراب الوجدانى حضوراً والتصاقاً:
هنا فى الشمال البعيد أحبك أكثر
وأبصرك فى سطور الرسالة
قبلة خرساء
من شفتين تنتظران
مأوى فى بريدى
لكن البعد أيضاً يزيد من قدرة المرء على الإبصار، يجعله يرى بوضوح أكثر التجربة بكل أبعادها. والحركة الخامسة بهذا تشبه الثانية، ولكنها تفوقها فى القدرة على تلخيص التجربة:
لا شك كنا نهذى
وكنا رومانسيين
أنى لمحنا كوة للبوح
ظننا أن ما يتناثر منا
سيصير أثراً لخرافتين صغيرتين
أو اسمين لعرائس الأطفال
لم أك أعلم
أننا قنطرة لمن يركب الأطلسى إلينا
أما وجه الاختلاف الأهم بين الحركتين الثانية والخامسة أن الأخيرة وإن كانت موضوعية وليست باردة ولا يائسة.
إنها ترى بعيون صاحية أنه «لا مدن لنا، ولا نسيان» ولكنها مع ذلك تنتهى بقرار العاشقين معاً ألا يهجرا العش ولتأت الرياح بما تشاء؛ كما نرى فى المقطع الاخير من العمل:
- وقت من العصيان يصعد
- لا مانع
- تتأذى الذكريات
- لا شك
- نسأم؛ سنبادر بالقطيعة
لا محيص
- مجزرة على مقربة
- أحبك
- غرفتنا بلا سقف
- قِّبلنى
- ينظرنا الفضائيون
- أسترك بعورتى

- كيما نطهر هذا الخراب الدرامى بجماع أخير (ص ص - 84، 85)
إن طاهر البربرى يكتب قصيدة نثر من نوع خاص. فإحالاتها ليست حياة كل يوم كما يفعل معظم ممارسى هذا النوع، واللغة أكثر كلاسيكية من المعتاد فى قصيدة النثر دون السقوط فى التقليدية أو فى أية كليشيهات سواء كليشيهات التعبير الكلاسيكى أو تلك التى نجدها فى قصيدة النثر نفسها التى صنعت لنفسها بسرعة خارقة إحالاتها وصورها التقليدية (المقهى، الأصدقاء .. إلخ). وقد استطاع ببراعة فى هذا العمل (مدن فارهة للنسيان) أن يكتب قصيدة طويلة دون الوقوع فى الثرثرة وأن يكتبها نثراً دون الوقوع فى النثرية، واستعار لها قالباً مستمداً من الموسيقى الكلاسيكية دون أن يأتى هذا اختياراً فوقياً مقحماً على القصيدة، بل أفلح أن تأتى كل حركة من حركات قصيدته الخمس تنويعة نغمية فى إطار الوحدة كما نجد فى البناء السيمفونى للموسيقى الكلاسيكية، كما أفلح فى أن يصوغ رؤيته المركبة فى شعر متعدد الأصوات وإن كان الشاعر دائماً هو المتكلم، ولم يلجأ - إلا نادراً - للاختيار الشائع السهل وهو استخدام الحوار، بل وزع حالاته الفكرية والمزاجية النابعة من تجربة الحب وتقلباتها على آلات موسيقية مختلفة فكان أحياناً آلة نفخ وأحياناً وترية وتراوح بين الموسيقى الناعمة والعاصفة كما يقتضى الحال وكما هو جدير بسيمفونية.

الخميس، 21 أغسطس 2008

Twenty she-friends



What alienation is it?! Twenty she-friends।!And still you are not integratedWith pearl of intimacy!!As though, You were saving poemsIn her remote, far-flung windowsA bullet, since you lost her trace,Have turned around towards your chaste;To bestow mid age upon exile an' errantry।What alienation is it?!Twenty she-friends,And the same wintry sceneSettling in bed beside you.You who is ornamented with festoons Of slaughtered sparrows under your stem;Craziness bartered you With whatever you wished of seductionYet isle of forgetfulnessNever protected you from Remembrance turbulence.





Tahe Muhammed El-Barbary
Copyright ©2006 Tahe Muhammed El-Barbary

الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

من رواية الحشد للأيرلندية آن إنرايت الفائزة ببوكر 2007



الحشد
آن إنرايت
ترجمة : طاهر البربري



1
أود أن أسجل ما حدث في بيت أمي صيف السنة الثامنة أو التاسعة من عمري، لكنني لست متأكدة تمامًا ما إذا كان هذا قد حدث أم لا. أنا بحاجة لأكون شاهد عيان على حدث غير مؤكد. أنا أشعر به يهدر داخلي ـ هذا الشيء الذي ربما لم يحدث أصلاً. أنا لا أعرف ماذا أسميه. أعتقد أنه يمكنك أن تطلق عليه جريمة ذات طبيعة بشرية، غير أن اللحم قد تراجع منذ وقتٍ طويل وأنا لست واثقة من الأذى الذي ربما يتخلف في العظام.
كان أخي ليام يحب الطيور، ومثل كل الأولاد، كان يحب عظام الحيوانات الميتة. أنا نفسي ليس لديّ أولاد، لذلك عندما أمر بأي جمجمة صغيرة أو هيكل عظمي أتردد وأفكر فيه، كيف كان يعجب بتعقيداتها. جناحان عتيقان لعقعق
[1] تأتيان في فوضى الريش؛ كثان خفيفان نظيفان. تلك هي الكلمة التي نستخدمها لوصف العظام: نظيفة Clean.
آمر بناتي أن يتراجعن خطوة للخلف، تحديدًا، بعيدًا عن فم الجمجمة في الغابة أو عصفور الدوري الميت الذي حملته الريح وتركته على سور الحديقة. لست واثقة لأي سبب. رغم أننا، أحيانًا، ما نجد على الشاطئ، عظمة حَبّار نقية جدًا لدرجة أنني أضطر لدسها في جيبي، وأريح يدي بملامسة بالمنحنى الغامض الأبيض لها.
لا يمكنك أن تُشَهر بالموتى، أعتقد أنه يمكنك فقط أن تأسى لأجلهم.
لذلك أعرض على ليام هذه الصورة: طفلتاي وهما يعدوان على الحافة الرملية لشاطئ حجري، تحت سماء وئيدة مضطربة، أكتاف معطفهما تهتز خلفهما. ثم أمحوها. أغلق عينيّ وأنجرف مع البحر بتشوشاته الصاخبة. وعندما أفتحهما ثانيةً، أكون عازمة على استدعاء البنتين للعودة إلى السيارة.
ريبيكا! إيميلي!
لا يهم. أنا لا أعرف الحقيقة، أو لا أعرف كيف أقول الحقيقة. كل ما لدي هو مجموعة من القصص، أفكار ليلية، القناعات المباغتة التي يفرخها انعدام اليقين. كل ما لديّ مجرد هذيانات ليس إلا. أحبته! أقول. لابد وأنها قد أحبته! أنتظر للإحساس الذي لا يستطيع صياغته سوى الفجر، عندما يجافيك النوم. أظل في الطابق الأرضي بينما الأسرة تتنفس فوقي وأسجلها، أصوغها في جمل جميلة، كل عظامي البيضاء النظيفة.
2
بعض الأيام لا أتذكر أمي. أنظر إلى صورتها فتهرب مني. أو أراها في يومٍ من أيام الأحد، بعد الغداء، ونقضي عصرية جميلة، وعندما أغادر أجد أنها انسلت إلى داخلي مثل الماء.
’إلى اللقاء،‘ تقول، وتكون قد خبت بالفعل. ’إلى اللقاء يا ابنتي الحبيبة،‘ وتومئ بوجهها الناعم العجوز لتلقي قبلة. لم تزل تصيبني بهذا الغضب الشديد. الطريقة التي تختفي بها حين أشيح بوجهي بعيدًا، وعندما أنظر، لا أرى فقط سوى الحواف. أعتقد أنني كنت سأمر بها في الشارع، لو أنها اشترت معطفًا جديدًا في حياتها. لو أن أمي ارتكبت جريمة فلن يكون هناك أي شاهد على ذلك ـ إذ أنها النسيان في حد ذاته.
’أين حافظة نقودي؟‘ اعتادت أن تسأل حينما كنا أطفالا ـ أو ربما سألت عن سلسلة مفاتيحها، أو نظارتها. ’هل رأي أحدكم حافظة نقودي؟‘ تصبح، خلال تلك الثواني المعدودة، هناك تقريبًا، عندما تمضي من الصالة، إلى المطبخ وتعود ثانيةً. حتى حينئذٍ لم نكن ننظر إليها ولكن في كل الأماكن الأخرى: وتكون هي مثل حملة من الهياج خلفنا، نوع من الإثم الجمعي، ونحن ننطلق في كل أنحاء الغرفة، مدركين أن عيوننا ستقع على الحافظة، المنتفخة بنية اللون، حتى لو كانت موجودة هناك وواضحة للعيان.
ثم يجدها بي. هناك طفل واحد فقط لا يستطيع فقط أن ينظر، ولكن أن يرى أيضًا. الهادئ.
’شكرًا لك، يا حبيبي.‘
للإنصاف، أمي شخص في غاية الغموض، من الممكن ألا تتمكن من رؤية نفسها. من الممكن أن تمر بطرف إصبعها على صف من البنات في صورة فوتوغرافية ولا تستطيع أن تميز نفسها بينهن. و، من بين كل أطفالها، أنا الوحيدة التي تشبه أمها لأعلى درجة، جدتي آدا. لابد وأن هذا مربكًا.
***
’أوه أهلاً،‘ قالت وهي تفتح باب الردهة، يوم أن سمعت عن ليام.
’أهلا، حبيبتي.‘ ربما تقول نفس الكلام للقطة.
’تفضلي. تفضلي،‘ وهي تقف على عتبة الباب، ولا تتحرك جانبًا كي تدعني أمر.
[1] العقعق: غراب أبقع طويل الذيل (المترجم).

قراءة في رواية (سحر أسود) لحمدي الجزار


السارد وتنوع الرؤى في رواية سحر أسود[1]
طاهر البربري
[2]


[الآلة التي أعرفها كما أعرف لون أظافري وسوء طويتي، الكاميرا المخبولة، الوحش، تقترب وتفضح، تبتعد وتكشف، تغوص في التفاصيل، تُبَصّر الأعمى، تصدم وتذل، تُجَمِلّ وتكذب وتعري الجميع من الثياب والنيات، تصطنع وتداري، تجمع الأضداد، والمتناقضات مزهوة بوجودها وحده، تسلبني الإرادة والاختيار، متهورة وهمجية، بربرية من زمن الأصنام الجديدة.] رواية سحر أسود ص. 162
لأن الرواية فن مخلص جدًا لكاتبها؛ للعالم الذي تطرحه وتحكي عنه؛ فالرواية ليست فنًا طيعًا أو سهلاً ولن تصبح هكذا أبدًا। ربما لأنها تجاوزت دورها كفن واستهدفت الحياة: الرواية كتاب الحياة؛ هامشها، ومتنها. لقد تجاوزت الرواية، في الآونة الأخيرة وجودها الفني لتتخذ مكانة أكثر سموًا، وقوة. مكانة جعلتها قابلة لأن تُنْعَت بأنها مثل كتاب الحياة. فهي ـ أعني الراوية ـ طارحة الأسئلة؛ والمُنَقِبة عن التفاصيل، وكاشفة الخفايا، وراصدة التحولات، ومُفْشية الأسرار بالغة القسوة عن الآدمي في زمكانيته/ زمكانياته المتعددة.



إن من الصعب بمكان محاولة كتابة ما يشبه القراءة النقدية حول رواية تفعل امتصاص قارئها بنهم، وشراهة مثل رواية سحر أسود للكاتب حمدي الجزار. ماذا بإمكان أي ناقد أو كاتب، أو حتى متلقي نموذجي للأدب أن يكتب عن الكتابة النابضة بالحياة الراهنة/ بالآني/ المؤلم/ الطائش/ الشجي/ الصاخب/ القابض/ الحلو/ اللاهث الذي تتجلى ملامح وجوده في قدرته على امتصاص كل المتناقضات، والتجذير لعالم مشحون ببدايات لا نهايات لها، أو، بالأساس، لا يخطط لأية نهايات. قديمًا كان الفن يرفض محاكاة العالم كما هو، ويُعلي من قيمة الفنان الذي يحاول محاكاة العالم كما ينبغي أن يكون أو كما لا ينبغي أن يكون. الآن أصبحت قدرة الفنان على محاكاة ما يتبلور في حدقتيه من العالم كافيًا لطرح أسئلة غاية في التعقيد عن هذا الآني وتحولاته اللاهثة والمباغتة في آن. ذلك لأن الحياة بواقعها باتت أكثر من أسطورية في مشهديتها وفي ممارسة الآدمي لوجوده فيها.
إن رواية سحرٌ أسود تحتفي بواقعية وارفة بكل عناصر العادي والمشترك. وفي لقطة جامعة واسعة تتسع لتمنح مشهدية شاسعة لشرائح آدمية تنصهر ـ رغم تباينها وتنافرها ـ في سياق مجتمعي كبير؛ تنفصم عرى العلاقة بين تفاصيله لكنها تقوى حين رصد مأزقه العام. ورغم كل هذه الواقعية التي تنطلق منها ولأجلها هذه الرواية إلا أنها تظل رواية مستعصية على التصنيف؛ وترفض الامتثال لرغباتنا النرجسية التي تحاول دومًا أن تنمذجها، وفقًا لقدراتنا المعرفية، ضاقت أم اتسعت. رواية سحر أسود من هذا النوع العصي الذي يرفض الانتماء لنموذج روائي بعينه. وبعبارةٍ أخرى، هي رواية تحمل ملامح الكثير من النماذج الروائية الأربعة التي قال بها باختين: رواية السفر (الرحلة)، رواية الاختبار، رواية البيوجرافيا (السيرة الذاتية)، ورواية التعلم.
إنها تقتفي أثر شخصياتها في رحلاتهم التي تبدأ من معرفة العالم والولع به إلى ناصية السأم واللانهاية واللاحركة إلى الوعي بالشرك الحياتي/ الوجودي حين تتكشف أمام وعيهم قسمات الحياة الحقيقية التي ينبغي التعامل معها قسرًا أو طواعيةً. ففي رواية سحرٌ أسود يمارس ناصر عطا الله [البطل المقترض] فعل الإخبار/ السرد عن حياة لا يدعي لها أية أهمية أو سطوة؛ هو بالأساس، لا يدعي لوجوده أية أهمية من أي نوع لكنه يخص عالمه ببالغ الاهتمام لأنه أيقونته الوحيدة؛ وتفاصيله الصغيرة البسيطة هي متنفسه وربما علة وجوده.
السارد في هذه الرواية يمثل أحد أهم العناصر البنائية في هذه الرواية. والسارد كما أشرت آنفًا هو "ناصر محمد عطا الله"، وهو في الوقت نفسه بطل الرواية ـ حتى لو اختلفنا حول مفهوم البطولة في الكتابة السردية والمسرحية في الفترة الراهنة؛ واكتفينا بأن ننعته بالشخصية المحورية. ولأن للسارد في رواية سحر أسود هيمنة على فعل السرد من بداية الرواية حتى نهايتها، فإنه تجدر بنا الإشارة هنا إلى أن العقد المُبْرَم بين الكاتب والقارئ ـ في هذه الرواية ـ تعاقد أوتوبيوجرافي وليس روائي؛ وعليه فقد سيطر ضمير المتكلم على العملية السردية
لماذا يبدو المثقفون أقل شرائح المجتمع تكيفًا مع ظرفهم الاجتماعي والحياتي؟ إنه سؤال الوهلة الأولى الذي استفزني كقارئ، وكأحد منتجات هذا الواقع لإكمال فعل القراءة حتى آخره. هذا السؤال هيمن بقوة على ذهني، مرةً أخرى، وأنا أعيد قراءة رواية "سحرٌ أسود" للكاتب الروائي حمدي الجزار. المُلفت للنظر، والمثير للدهشة في ذات اللحظة هي أن شخصية المثقف هذه، التي يطرحها الروائي، تمتلك من القدرة ما يجعلها تعلن بأشكال متعددة عن رفضها لـ (وعدم تكيفها مع) عالمها وظرفها الاجتماعي والحياتي، وأتطرف لأقول، والنفسي والإدراكي أيضًا؛ مع ذلك تتشبث وتعيش في حالة خدر دائمة. تتبنى القرارات ولا تنفذها. تُظهِر عدم الرغبة وتنصاع. لكنها لا تتمرد أو تثور. لا تنقلب أو تفقد خطوط سيرها. رغم هذا، أبدًا، لا تتكيف. والتكيف هنا له معنى أكثر دقة وعمقًا من مجرد التعايش الأليف؛ إنه القدرة على الفعل واختطاط المسار والتحقق.
من بداية الرواية يتعامل السارد الممسرح (ناصر عطا الله) مع نفسه على أنه هامش عالمه ولذلك يبدأ في بناء عالمه من الخارج؛ بل ويبدأ بتصوير عالمه هذا من حوافه لا من بؤرته ومتنه. فالعم ريحان الحانوتي هو أحد العناصر الممثلة لهامش/ حواف هذا العالم لأن وجوده جاء عرضيًا مؤقتًا. جاء مع انتقال ناصر عطا الله (المصور التليفزيوني) إلى الإقامة في حي جديد، في شقة جديدة في قلب القاهرة. حتى أنه ـ أعني الروائي حمدي الجزار ـ لم يمنح الفصل الأول ترقيمًا واتخذه كنقطة انطلاق لكادر كبير ممتد يبدأ من المشهد 0 حتى المشهد 36 هو الفصل الأخير في الرواية. لكن على الرغم من تدشينه لفعل السرد بمحاولة الاقتراب بعمق تصويري من شخصية ريحان الحانوتي الذي يجلس على باب دكانه ويقوم بخياطة الأكفان من أول النهار حتى آخره، إلا أن أول جملة في الرواية تقرر حقيقة أولية: نفي بطل الرواية (بصورة أدق الشخصية المحورية فيها) لشعوره بالرهبة من المكان ومن العجوز. لماذا احتلت كلمة (لا) السطر الأول في الرواية؟:
"لا.
لم أشعر برهبة من هذا المكان، أو بخوف من هذا العجوز الجالس على دكته الخشبية الصغيرة في مدخل البيت القديم، يخيط الأكفان البيضاء بابتسامة ثابتة تجمدت معها ملامح وجهه، ونظرته المقتحمة التي تتردد بين الإبرة والقماش والداخلين والخارجين من البيت. يتفحصهم طويلاً، بثبات، كأنه لا يراهم، تقريبًا، كأن عينيه ميتتان، أو هكذا يبدو لشخصٍ غريبٍ مثلي." الرواية ص. 5.
ربما كانت هذه الرهبة التي ينفيها ناصر عطا الله عن نفسه هي السبب الذي جعله كثير التنقل للعيش في أحياء القاهرة المختلفة (مدينة نصر، طريق الحبانية، الهرم، فيصل،...إلخ) رغم أنه أحد أبناء هذه المدينة في الأساس. إلا أنه سينصاع لممارسات أخيه الكبير مأمون عطا الله ويتركه يستولي على بيت العائلة، ليبدأ رحلة من التنقل الدائم بين أحياء وضواحي القاهرة. بطل هذه الرواية مستعد دائمًا (وهذا ملمح مستفز في شخصيته) أن يسمح لريحان باقتحامه:
"كنت على استعداد تام لإرواء نزق ريحان وشهوته الجامحة للاستطلاع، ومشاركته أسراري الشخصية التي كنت في حاجة ماسة لفضحها أم شخص عجوز حكيم مثله، يتعامل يوميًا مع الأجساد الناضجة المكتملة، التي تغادر الحياة وقد تخلصت من مأزقها. إنه يرى الناس في لحظة نضوجهم القصوى التي ليس بعدها شيء." الرواية: ص. 10.
إن في استعداد بطل الرواية (ناصر عطا الله الذي وُلِد يوم دفن عبد الناصر وسُميَّ بهذا الاسم كنوع من رثاء جمال عبد الناصر) السماح لريحان أن يقتحم عالمه وأسراره وتفاصيل حياته إشارة واضحة لإدراكه ووعيه الذاتي باتجاهاته السلوكية؛ غير أن استخدامه للقدرة على الاختيار يظهر، بشكل عام، في صورة السلوك المُعَطَل. ربما بدافع السأم من الحياة ومن رغبته فيها. أو ربما بدافع من عجزه عن التكيف. العجز الذي يعلن عنه صراحةً بين الحين والآخر. وللسارد دورٌ رئيسٌ في الإعلان عن ملامح عالم تَصِمَهُ الفوضى وتحركه أخلاقيات خبيئة هي ابنة واقع راهن له أيضًا معطياته ونتائجه. واقع تجاوز كل القياسات المنطقية وانطلق بطيش إلى فضاء فانتاستيكي غاية في الغرائبية وربما الترويع. واقع يكتبه روائي عبر سارد يحاول الحكي عن المعقول في واقع غير معقول. واقع يغيظ، ويُذهل ويُمْرض، ويشكل نوعًا من الحيرة لخيال المرء الذي صار ضئيلاً حياله. هل أصبح الواقع الفعلي ـ على حد تعبير مالكوم برادبري [الرواية اليوم] ـ يتغلب دومًا على موهبة الكاتب، ويقذفه كل يومٍ بشخصيات يحسدها عليه أي روائي؟ صحيح، من مثلاً يمكنه أن يبتدع شخصيات مثل ريا وسكينة، ماضغي الزجاج، وآكلي لحوم البشر، سماسرة السلاح، وكوادر المافيا، والانتحاريين، والقوادين ومزوري الانتخابات وبعض أصحاب الحقائب الوزارية؟!!
لقد تنوعت رؤية السارد في هذه الرواية. فأحيانًا ما تهيمن على عملية السرد الرؤية من الخلف Vision par Derriere
[3] وفيها "يتميز السارد بكونه يعرف كل شيء عن شخصيات عالمه، بما في ذلك أعماقها النفسية، مُخترقًا جميع الحواجز كيفما كانت طبيعتها. كأن ينتقل في الزمان والمكان دون صعوبة، ويرفع أسقف المنازل ليرى ما بداخلها وما في خارجها، أو يشق قلوب الشخصيات ويغوص فيها ليتعرف على أخفى الدوافع وأعمق الخلجات. تستوي عنده في ذلك جميع الشخصيات على اختلاف مستوياتها[4]. غير أن هذه الرؤية تُلزِم الكاتب باستخدام ضمير الغائب كي يقوم بالحكي بشكل مثالي. وهذا ما لم يلتزم به حمدي الجزار. فقد التزم بضمير المتكلم من البداية إلى النهاية؛ ويغوص في شخصياته إلى درجة أنه يتخيل صور أحلامهم، ونراه يتحدث عن قيلولة ريحان تحت بلكونته بعمق يجعل القارئ يتخيل السارد وقد أصبح كاتب سيناريوهات أحلام العجوز ريحان:
"....ويغفو في قيلولته اللذيذة. ينام كرضيع بعد دقائق قليلة من استلقائه على الدكة، ولا تفارق وجهه ابتسامته، كأنه يُداعب ملائكة طيبين، وعذراوات جميلات، ولا يرى في نومه ما أراه من كوابيس." الرواية ص. 6.
في نموذج آخر يعلن السارد المُمَسْرح عن أحد مناهجه في معرفة الآخرين/ العمق الجواني للآخر؛ فيقول:
"قلت لنفسي منذ سنوات طويلة إن أفضل طريقة لفضح الآخر هي أن تنظر في داخله مباشرةً، أن تطرق بوابته عبر عينيه ولا تجفل، لا تخافه حتى تراه وتعرفه وتُعَريه...." الرواية ص. 30.
في الفقرة السابقة نجد أن شخصية السارد تضاهي بدرجةٍ كبيرة الرؤية التي ينطلق منها في الحكي وإن قام بتعميق الرؤية بصورةٍ أوسع وهو يتقافز بين شخصيات عالمه بخفة مبهرة، حقيقةً، ودون أي مبالاة بالحدود المنهجية لهذه الرؤية. فأخذ ينحت ملامح الشخصية من الداخل بدقة وتقريرية، محاولاً ترسيخها بصورة يقينية عند المسرود له. غير أنه كان أكثر ميلاً لهذا التصوير الداخلي الدقيق مع أقرب شخصيات الرواية من عالمه. وفاتن شهدي هي أقرب الشخصيات في عالمه إليه؛ أو الشخصية التي طاولت في وجودها وممارساتها وتآريخها قامة الشخصية المحورية التي تمارس فعل السرد بضمير الأنا المتكلم. إن الإصرار على التمسك بهذه المنهجية في السرد مكنه أيضًا من عقد مقارنات بين شخصية فاتن وعالمه المهني؛ ولم يتوقف عند هذا فحسب، بل وأطلق أحكام تتجاوز كونها مجرد وجهات النظر. إنها تبلغ حد المعرفة اليقينية بعمق البناء الجواني لمحيطه المهني. نوع من التبصر. عدسة روحية أكثر حدة في اختراقها للتفاصيل المحيطة بها من عدسة الكاميرا الديجيتال التي كانت في فترة من الفترات تمثل حلم ناصر عطا الله المصور التليفزيوني الذي يرى بعينيّ رأسه وعين كاميرته وعيون روحه....:
"فاتن امرأة تخلو من الزيف والتصنع والتكلف......أقنعة ملونة من الزيت والجواش والترتر والخرز يدهنون بها وجوههم ويخرجون للقاء الناس مبتسمين ابتسامات بلاستيكية بحرص بالغ حتى لا تسيل الزيوت والألوان، وفي عالم ’الميديا‘ من لا يملك العدد الكافي من الأقنعة فإن فرصته في العمل والحياة أقل بطبيعة الحال. كلما زادت القدرة على إخفاء الشخص لنفسه كلما صار لامعًا ومرئيًا للجميع بشكل أفضل، يختفي اللحم والدم والحضور الشخصي لحساب العرض العام، لهذا يعيش أهل الميديا دائمًا في مواجهة جمهورهم أينما ذهبوا، يظهرون بكامل أدواتهم وحيلهم وأقنعتهم، فأفر من وجوههم....الفيلم السينمائي الوحيد الذي صورته فشل فشلاً ذريعًا، كما يقولون، بسبب فشلي في التكيف." الرواية ص. 46.
.....غير أن لعبة التنوع في استخدام رؤى السارد عبر الراوي العليم (بخصائصه المُلزِمة ـ من وجهة النظر النقدية) قد استهوت الروائي فأخذ يمزج بين الرؤية من الخلف والرؤية من الخارج Vision du
[5]dehors فأحيانًا ما يقوم ناصر عطا الله بوصف ما يرى ويسمع دون أن يتجاوز ذلك لما هو أبعد:
"تبدأ أصوات المشاجرة الليلية المعتادة تنبعث من خلف الحائط المشترك بيننا. أميز فيها أصوات العوانس الثلاث، كما يسميهن جمعة...... الليلة يضربها بغضب أكثر من المعتاد قليلاً، لأنها تمايصت في سوق الخضار مع المعلم عضمة الجزار حتى لا يدس الشغت في كيلو اللحم الكندوز....الأختان الأخرتان تنهنهان وتستجديان، بصوت خافت مكسور، وتتوسلان جمعة أن يكف عن ضرب أختهما. يتعب جمعة بسرعة من ضرب البنت الطويلة الفارعة، وأخيرًا تنتهي المشاجرة بجمعة يسب بنات الـ...." الرواية ص. 17.
من خلال هذا التنوع في الرؤى يستطيع الروائي حمدي الجزار عبر بطله ناصر عطا الله ترتيب وقائع عالمه دون أن يدعي أدنى مستوى من الحضور المركزي في بؤرة هذا العالم. فأحيانًا يحتل جمعة، جاره في المنزل، وأخواته الثلاث العوانس موقع الصدارة؛ بالضبط كما حدث مع ريحان في أول الرواية. في مشهد آخر نرى zoom in على شخصية أخرى تطفو على السطح لبرهة كفقاعة ضخمة ما تلبث أن تتلاشى. رغم ذلك ليس ثم من شعور بالطيش أو العشوائية. لقد تعامل حمدي الجزار بحرفية شديدة حين أضفى تطابقًا قويًا بين بطل الرواية ومهنته. فهو المصور الذي أبدًا لم ينس أنه مُصَوِر حتى وهو يتكلم. يعرف كيف يرى من خلف عدسة الكاميرا التي يحملها؛ ويعرف أيضًا كيف يرى بعينيّ رأسه، إضافةً إلى بصيرته التي كثيرًا ما يُنكرها على نفسه حين يتهم نفسه بالغباء والسذاجة:
[ماذا يُسمي الناس هذا الشخص الذي يُصِر على التشبث بالخطأ مقابل الآخرين، مقابل العالم كله، وكأن أمامه الأبدية ليخطئ؟ يسمونه مغفلاً، ساذجًا، أهطلاً. أنا أسميه باسمي، فمن امرأة لأخرى، من وجهٍ لآخر، من ناس لآخرين. لا أكف عن العشق، ولا أكف عن السقوط المريع من الدور الثلاثين على الإسفلت العاري، أسقط دون أن يقاسمني أحد. دون أن يعرف أحد. الرواية ص. 82.]
هناك عدة مستويات للفقد في هذه الرواية؛ فالفقد عند ناصر عطا الله يتجلى في وجود فقدان المركز والغاية. إذ أنه منذ قام أخوه مأمون عطا الله ضابط الجيش بالاستيلاء على بيت العائلة وهو في حالة من التنقل الدائم من مكان لآخر ومن حي لآخر؛ ومن ثم يغلب الإيقاع الدراماتيكي على شكل حياته. هناك جديد دائمًا ينتظره في كل مستقر جديد. وبطبيعة الحال، شخصية كهذه لها وقع غرائبي على بيئتها الاجتماعية أيًا كان مكانها. هناك فقد أيضًا للغائية. وسؤال يطرح نفسه، بقوة، دائمًا أبدا: لماذا تُعاش الحياة طالما أن مركزها غائبًا، وغائيتها مضببة أو غير موجودة أصلاً؟ أيضًا شخصية فاتن شهدي في الرواية تأتي لتعلن عن نفسها كمعادل آخر للفقد. فهي ـ أعني فاتن شهدي ـ امرأة مقبلة على نهاية العقد الخامس من حياتها، رغم ذلك لم تبحث بنهم عن الحياة. الحياة الحقيقية. حتى علاقتها ذات البعد الجسداني (الروحاني في أضيق الحدود) بناصر عطا الله موصومة بالنقص والارتباك، ومن ثم بالفقد لأنتفاء غائيتها. هي علاقة تقوم وتسقط وتقوم وتسقط عبر طرفيها وما يشوبهما من تشوش وتوتر وفوضى. إنه الفقد الطاعن في تدريب ضحاياه على العيش فقط بلا غائية، بلا أحلام أو أمصال واقية من حيله البارعة في اصطيادهم.
الرواية، وكما ذكرت من قبل، قادرة على إنتاج الغريب عبر رصد العادي والمشترك. الحكايات البسيطة وقد أصبحت ناضجة بما يكفي لإنتاج الدهشة والترويع والمخاوف. العادي والمشترك الذي نتوخي أن نصبح من ضحاياه. الحياة المقامِرة بنا؛ والتي لسذاجتنا نتصور طوال الوقت أننا نقامر بها تنتفخ وتنفجر في كل الوجوه بغتةً ودون سابق إنذار.


[1] حمدي الجزار، رواية سحر أسود، دار ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، 2005.
[2] كاتب ومترجم مصري.
[3] انظر T. Todorov: (LesCategories du recit). In L’analyse Structurle du recit
[4] عبد العالي بوطيب: مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي بين الاختلاف والائتلاف، مجلة فصول، زمن الرواية، الجزء الأول، المجلد الحادي عشر، العدد الرابع، شتاء 1993، ص. 72، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
[5] انظر T. Todorov: (LesCategories du recit). In L’analyse Structurle du recit.

خاطرة


يا للوحشة،
عشرون صاحبةً ولست أراك مكتملاً بلؤلؤة الغرام.
كأنك كنت تدخر القصائد في نوافذها البعيدة.
طلقةٌ ـ مُذ غابت أماكنها استدارت صوب صدرك.
لتُعير للتجوال والمنفى انتصاف العمر.
ياللوحشة:
عشرون صاحبةً، والمشهد الشتوي يفترش السرير إلى جوراك.
أنت المكلل باليمامات الذبيحة تحت جذعك
قايضك الجنون بما أردت من الغواية
فما أوتك جزيرة النسيان
من صخب التذكر.

نهاية الخيال (آرونداتي روي)



نهاية الخيال
آرونداتي روي¨
ترجمة: طاهر البربري
·
يمكن قراءة النص الإنجليزي للمقال على الرابط التالي:
http://www.ratical.org/ratville/nukes/endOfImagine.html
"الصحراء اهتزت،" أخبرتنا حكومة الهند، نحن (شعبها)।
"لقد استحال الجبل كله أبيضَ،" علقت حكومة باكستان।



بعد الظهر، استكانت الرياح صامتةً على بوخران Pokhran. عندما أشارت عقارب الساعة إلى الرابعة إلا ربع مساءً. أتمت آلة التوقيت تفجير المفجرات الثلاثة. على عمق حوالي 200 إلى 300 متر تحت الأرض، الحرارة التي تولدت عن التفجير كانت تُعادل مليون درجة مئوية، تمامًا مثل درجة الحرارة على سطح الشمس. وعلى الفور، بدأت صخور تزن حوالي ألف طن، جبل صغير من موجات الارتجاج المنبجسة من الأرض، في التصاعد من الانفجارات حاملةً كتل من الأرض بحجم ملعب كرة قدم بضعة أمتار لأعلى. قال أحد العلماء عند رؤية ما حدث، ’أستطيع الآن أن أصدق القصص التي تُحْكى عن لورد كريشنا وهو يرفع تلاً.‘ الهند اليوم India Today.
مايو/ آيار 1998. سَيُسَجَل في كتب التاريخ، على اعتبار، بالطبع، أن لدينا تاريخ ليُكْتَب فيه. على اعتبار، بالطبع، أن لدينا مستقبل. لا شيء جديد أو أصلي تبقى لدينا يمكن قوله عن الأسلحة النووية. ليس هناك شيء أكثر إذلالاً لكاتب روائي من أن يُعيد صياغة قضية قام آخرون، على مر السنين، بالتأصيل لها بشكل معرفي وعاطفي.
أنا مُعَدةٌ للإذلال. مُعَدة لإذلال نفسي بصورة مُنْحَطة، لأن الصمت، في هذه الظروف الراهنة، سوف لن يكون جديرًا بالدفاع عنه. الصمت. لذا، فمن منكم لديه الرغبة: لنأخذ أدوارنا، ونرتدي هذه الثياب المنبوذة لنقول هذه السطور والجمل البالية الرثة؛ في نفس المسرحية البالية الرثة. لكن ينبغي ألا ننسى أن الرهانات التي نلعب لأجلها من الضخامة بحال. إن ما يعترينا من شعور بالخزي والإعياء من الممكن أن يمثل خط النهاية بالنسبة لنا. نهاية أطفالنا وأحفادنا. نهاية كل شيء درجنا على محبته. لابد أن نبلغ أعماق ذواتنا لنكتشف القوة الدافعة على التفكير. على القتال.
ثانيةً، نحن متخلفون بصورة مثيرة للشفقة ـ ليس فقط على المستوى العلمي والتقني (ناهيك عن ادعاءاتنا الضحلة)، ولكن فيما هو أكثر من هذا، نحن متخلفون في قدرتنا على إدراك الطبيعة الفعلية للأسلحة النووية. إن فهمنا لهيئة الفزع عتيق بصورة تبعث على اليأس. ها نحن، جميعًا في الهند وباكستان، نتناقش حول النقاط الأكثر رهافة ورِقَة في السياسة، والسياسة الخارجية، نتصرف أمام العالم بأسره وكأن حكوماتنا ابتكرت توًا، قنبلة أكبر، نوعًا من القنابل اليدوية هائلة الحجم ستبيد بها العدو (بعضنا البعض) وتحمينا من كافة التهديدات. كم نحن في أمس الحاجة لتصديق هذا. يالروعتنا وتهذبنا، وحسن سلوكنا حين تحولنا إلى كائنات ساذجة سهلة الانقياد. لن يغفر لنا بقية الجنس البشري، لكن وقتئذ، ما ربما لن يدرك بقية ما تبقى من الجنس البشري ـ وفقًا لمن يُشكل الأفكار وقتئذٍ ـ إلى أي مدى نحن متعبون، تعساء، وحزانى. ربما لن تدرك هذه البقية حاجتنا الماسة لمعجزةٍ عاجلة. حنيننا العميق للسحر وللسحرة.
لو أن الحرب النووية مجرد نوع آخر من الحروب، لو أنها فقط هكذا. لو أنها كانت فقط عن الأشياء العادية ـ الأمم، والأقاليم والآلهة والتآريخ. لو أن من يرهبونها منّا كانوا بالفعل مجرد جبناء معدومي الأخلاق غير مستعدين للموت لقاء الدفاع عن معتقداتهم. لو أن الحرب النووية كانت فقط تلك الحرب التي تتقاتل فيها دول ضد أخرى، ويتقاتل فيها بشر ضد بشر. لكنها ليست هكذا. لو أن هناك حربًا نووية، فلن يكون عدونا هو الصين أو أمريكا ولا حتى أيهما ضد الآخر. عدونا سيكون الكرة الأرضية نفسها. العناصر ذاتها ـ السماء، والهواء والأرض، والرياح والماء ـ ستنقلب كلها، كلها ضدنا.
مدننا وغاباتنا، حقولنا وقُرَانا، ستضطرم فيها النيران لأيام. ستتحول الأنهار إلى سموم. سيستحيل الهواء نارا. والرياح سوف تحمل على عاتقها نشر اللهب. عندما يحترق كل ما هو قابل للاحتراق وتخمد النيران، سوف يرتفع الدخان ويحجب الشمس. الأرض ستغشاها العتمة. لن يكون هناك نهارا. فقط ليل لا نهائي. ماذا سنفعل حينئذ، نحن ممن سيظلون على قيد الحياة؟ من ستشوههم الحرائق ويصيبهم العماء والصلع والمرض على اختلاف أنواعه، أين سنذهب ونحن نحمل بين أيادينا جثث أطفالنا المُسَرْطَنَة؟ ماذا سوف نأكل؟ أي شيءٍ سوف نشرب؟ هل ثم من هواء كي نتنفس؟
إن رئيس مجموعة الصحة والبيئة والأمن في مركز بهابها للأبحاث الذرية في بومباي لديه خطة. أعلن أن الهند يمكن أن تدخل حربًا نووية. وكانت نصيحته هي أنه إذا كان هناك حرب نووية، فعلينا أن نحتاط بنفس إجراءات السلامة التي أوصى بها العلماء حال وقوع حوادث من جراء النباتات النووية. حيث سيكون الاستهلاك مقصورًا فقط على ما قد تم تخزينه من الماء والغذاء وتجنب استخدام الحليب. ويتحتم على من يعيشون في نطاقات الخطر الإقامة على الفور في الطوابق الأرضية، وفي السراديب إن أمكن."
ماذا تفعل مع هذه المستويات من الجنون؟ ماذا لو حُوصِرت في أحد الملاجئ، وأصيب الأطباء بنوبة خطرة من التشوش الهستيري؟ لنتجاهل هذا. إنه مجرد نوبة من العته الجامح من روائية، سيخبرونكم بأن القيامة مبالغة من نبي؛ وأن الأمر لن يبلغ هذا الحد. لن يكون هناك حرب. وأن الأسلحة النووية للسلام لا للحرب. "الردع" كلمة طنانة يرددها أولئك الذين يميلون إلى اعتبار أنفسهم صقورا. (طيور لطيفة، وجميلة، وأنيقة. متلصصة. ياللأسف، لن يكون هناك العديد منها حولنا بعد الحرب. الانقراض كلمة ينبغي علينا أن نحاول الاعتياد عليها.) الردع أطروحة قديمة، ابتُعِثَت، ويُعاد إنتاجها مضافًا إليها نكهة محلية. نظرية الردع وضعت تصديق منع الحرب الباردة من التحول إلى حرب عالمية ثالثة في مأزق. الحقيقة الوحيدة الثابتة حول الحرب العالمية الثالثة، إذا ما كان هناك، تُقِر بأنها ستندلع بعد الحرب العالمية الثانية. بعبارةٍ أخرى، لم يزل أمامنا متسع من الوقت. لا، نظرية الردع تنطوي على بعض العيوب الجوهرية.
العيب الأول يكمن في أنها تفترض فهمًا مُحَنَكًا لسيكولوجية عدوك. إنها تفترض أن ما يردعك (الخوف من الإبادة) هو نفسه ما يردعه. ماذا عن أولئك الذين لا يردعهم هذا؟ التركيبة النفسية لمن يقوم بالتفجير الانتحاري ـ الـ "سنأخذك معنا" مدرسة ـ أتلك فكرة غريبة؟ كيف مات راجييف غاندي؟
على أية حال، من هو المُشار إليه بضمير المُخَاطَب "أنت"، ومن هو المقصود بكلمة الـ "عدو"؟ كلاهما ليسا سوى حكومتيّن. الحكومات تتغير. تلبس أقنعة فوق أقنعة داخل أقنعة. طيلة الوقت تطرح وتُعيد اختراع نفسها. حكومتنا في الوقت الراهن، على سبيل المثال، ليس لديها ما يكفي من المقاعد كي تستمر فترة كاملة في موقعها. لكنها تطالبنا بالثقة فيها كي تقوم بالتفافات وخدع حزبية بالقنابل النووية حتى وهي تدور حول نفسها بحثًا عن موضع قدم لتزعم لنفسها أغلبية بسيطة في البرلمان.
العيب الثاني هو أن الردع يقوم على الخوف. لكن الخوف يقوم على المعرفة. على الفهم الحقيقي لمدى ونسبة الدمار الذي ستخلفه الحرب النووية. إنها ليست خاصية فطرية وملغزة مرتبطة بالقنابل النووية حتى ينشرون أفكار السلام أوتوماتيكيًا. إنها، على النقيض من ذلك، تتطلب عملاً مجابهًا لا نهائية، ولا مهادنة ممن لديهم الشجاعة على شجبهم وفضحهم، المسيرات، والبراهين، والأفلام، والازدراء ـ هذا ما قد تفادى، أو ربما أرجأ الحرب النووية. لا ولن يمكن للردع أن يكون فاعلاً في ظل مستويات الجهل والأمية التي تغشى بلدينا وكأنها سُتُر ثقيلة وكثيفة غير قابلة للاختراق.
القنبلة النووية الآن في متناول يد الهند وباكستان وكلا الدولتين تشعر بكامل الحق في امتلاكها. وعما قريب ستكون في متناول دول أخرى. إسرائيل، إيران، السعودية، النرويج، نيبال (أنا هنا أحاول أن أتسم بالانتقائية)، الدنمارك، ألمانيا، المكسيك، لبنان، سيريلانكا، بورما، البوسنة، سنغافورا، كوريا الشمالية، السويد، كوريا الجنوبية، فيتنام، كوبا، أفغانستان، أوزباكستان ـ ولما لا؟ كل دولة في العالم لها أسبابها الخاصة المحفزة على امتلاك القنبلة النووية. لكل إنسان كل حدود ومعتقدات. وعندما تكتظ مخازننا، بدلاً من الأغذية، بالقنابل المُشِعة في حين تعاني بطوننا من الخواء (ويصبح الردع حيوانًا متوحشًا)، سنقايض القنابل بالغذاء. وعندما تنزل التكنولوجيات النووية إلى الأسواق، عندما تدخل دائرة المنافسة وتنخفض الأسعار، فلن تتمكن الحكومات فحسب من امتلاك مستودعات أسلحة خاصة بها، بل والأفراد أيضًا ـ رجال الأعمال، السائحون، وربما حتى الكُتاب (من أمثالي) ممن أصبحوا أثرياء لسببٍ ما أو لآخر. سيصبح كوكبنا محفوفًا بالأسلحة الجميلة. سيكون هناك نظامٌ عالميٌ جديد. ديكتاتورية النخبة الثرية.
لكن لنتوقف عن التسليم بهذا رغم أنه حتمي. لأجل من ينبغي أن نفكر في هذا كله؟ من أحدثوا هذا. سادة العالم. السيدات والسادة، الولايات المتحدة الأمريكية! تعالوا هنا، أيها الناس، قفوا وانحنوا تبجيلاً. شكرًا على ما قدمتموه للعالم. شكرًا لما أحدثمتوه من اختلاف. شكرًا لأنكم أرشدتمونا إلى السبيل. شكرًا لتغييركم ناموس الحياة وغايتها.
من الآن فصاعدًا لن يكون خوفنا من الموت، بل من الحياة.
من أشد الحماقات خطورة الاعتقاد بأن الأسلحة النووية مميتة فقط حال استخدامها. وحقيقة الأمر أن وجودها المطلق، تمام حضورها في حيواتنا، سوف يُحدِث دمارًا أكبر مما تخيلنا. الأسلحة النووية تستعمر تفكيرنا. إنها المستعمر اللانهائي. أكثر بياضًا من أي رجلٍ أبيض رأيناه. جوهر البياض ذاته.
كل ما أستطيع قوله لكل رجل، وامرأة وطفل واعٍ هنا في الهند فقط على مسافة قليلة بعيدًا في باكستان، هناك: تعامل مع الأمر بشكل شخصي. أيًا كنت ـ هندو، مسلم، حضري، ريفي ـ لا يهم. أجمل شيء في القنبلة النووية أنها أكثر الأفكار التي اخترعها الإنسان تبنيًا للمساواة. في يوم القيامة، لن يُطلب منك إحضار أوراق اعتمادك. فالدمار لن يُفَرق أو ينتقي. القنبلة ليست في الفناء الخلفي لبيتك. إنها داخل جسدك. وجسدي. لن يكون لدي أي شخص أو أمة أو حكومة أو إله الحق في أن يقذفها هناك. نحن نشطون إشعاعيًا بالفعل، حتى قبل أن تبدأ الحرب. لذلك انهضوا وقولوا شيئًا. بغض النظر عما إذا كان قد قيل مسبقًا. تحدثوا نيابةً عن أنفسكم. تعاملوا مع الأمر بصورة شخصية جدًا.
أنا والقنبلة
في أوائل مايو/ آيار (قبل القنبلة)، غادرت وطني لمدة ثلاثة أسابيع. ظننت أنني سأعود، كانت أحمل في نفسي كل نوايا العودة. بالطبع، لم يكن سير الأمور وفقما خططت تمامًا. فبينما كنت بعيدة، قابلت واحدة من صديقاتي؛ كنت دائمًا أحبها لأسباب كثيرة من أهمها قدرتها على مزج عاطفة الحب العميقة بمستوى من الشفافية تقترب من الهمجية.
’لقد كنت أفكر فيك،‘ قالت، ’في إله الأشياء الصغيرة ـ ماذا فيها، ماذا فوقها، تحتها، حولها، أعلاها.‘ سقطت في مغبة الصمت لبرهةٍ. كنت قلقة ولم أكن أبدًا على يقين من رغبتي في سماع بقية ما كانت تتحدث بشأنه. لكنها، على أية حال، كانت متيقنة من أنها ستستأنف حديثها. ’في العام الماضي هذا ـ أقل من عام فعليًا ـ أصبت الكثير من كل شيء ـ الشهرة، المال، الجوائز، التملق، النقد، الإدانة، السخرية، الحب، الكراهية، الغضب، الحسد، الحفاوة ـ كل شيء. وفقًا لبعض وجهات النظر كانت قصة متكاملة. كانت باروكية
· في إفراطها. المشكلة أنها تنطوي، أو يمكن أن تنطوي على، نهاية واحدة مكتملة.‘ كانت تُثَبِت عينيها عليّ، وبهما ألق يشوبه لمعان منحدر متسائل. كانت تعرف أنني أعرف ما كانت مُقْدمة على التصريح به. كانت مجنونة. كانت ستقول أن لا شيء مما حدث لي في المستقبل يمكن أن يضاهي طنين هذا. وأن كل ما تبقى من حياتي سيكون غير مريح أو مُرضٍ بصورة غامضة. ولهذا، فأكثر النهايات اكتمالاً هي الموت. موتي.
خطرت الفكرة ببالي أيضًا. بالطبع خطرت. الحقيقة أن كل هذا، هذا التألق العالمي ـ هذه الأضواء في عينيّ، التصفيق، الأزهار، المصورين، الصحفيين الذين يتظاهرون بكل هذا الاهتمام العميق بحياتي (ومع هذا يجتهدون في معرفة حقيقة واحدة مباشرة)، رجال يلبسون بدلاً ويتملقونني، الحمامات البراقة ذات المناشف التي لا تُحصى في الفنادق ـ لا شيء من هذا من المرجح أن يحدث ثانيةً لي. هل سأفتقد هذا؟ هل درجت على احتياج هذا؟ هل كنت مدمنة شهرة؟ هل سأصاب بأعراض الانسحاب؟
كلما فكرت في الأمر، كلما وضح لي أنه لو أن الشهرة أصبحت حالتي الدائمة فإنها ستقتلني. ستضربني حتى الموت بطبائعها وعاداتها الجميلة. سأعترف أنني قد استمتعت بدقائقي الخمس منها بصورة هائلة، لكن لأنها كانت، في المقام الأول، خمس دقائق فقط. لأنني كنت أعرف (أو ظننت أنني كنت أعرف) أنه باستطاعتي العودة لبيتي وقتما أشعر بالسأم وأقهقه علي هذا. صرت كبيرة وغير قادرة على تحمل المسئولية. آكل المانجو في ضوء القمر. ربما أكتب كتابين فاشلين ـ أسوأ مبيعات ـ لأرى أثر هذا. لعام بأكمله طُفت جميع أنحاء العالم، سفينتي كانت ترسو دائمًا على أفكاري حول وطني والحياة التي سأعود إليها. وعلى النقيض من كل التساؤلات والتنبؤات حول اقتراب موعد هجرتي، ذلك كان البئر الذي غرقت فيه. كان ذلك عوني. قوتي.
أخبرت صديقتي أنه لا يوجد شيء اسمه قصة مكتملة. قلت إنه في حالتي كانت وجهة نظرها ليست سوى رؤية من الخارج للأمور، هذه الفرضية القائلة بأن مسار سعادة الإنسان، أو لنقل مُنْجَزه، قد تضاءل (والآن يجب أن يتدنى) لأنها قد أصابت "النجاح" بطريقة عَرَضِية. فكرة قائمة على اعتقاد وهمي بأن الثروة والشهرة هما العناصر الإلزامية لأحلام كل إنسان.
لقد عشت كثيرًا في نيويورك، قلت لها. هناك عوالم أخرى. أنواع أخرى من الأحلام. أحلام يكون الفشل فيها محتملاً. شريفًا. شيء جدير بالكفاح. عوالم لا يكون فيها الإدراك هو المقياس الوحيد للذكاء أو القيمة الإنسانية. هناك الكثير من المحاربين أعرفهم وأحبهم، أناس أكثر قيمة بكثير مني، يذهبون للحرب كل يوم، ويعرفون مُسْبَقًا أنهم سيفشلون. هم في واقع الأمر أقل "نجاحًا" بالمعنى الدارج جدًا للكلمة، لكنهم بلا شك أقل تحققًا. الحلم الوحيد الجدير بالحياة لأجله، قلت لها، هو الحلم بالعيش وأنت حية بالفعل والموت فقط وأنت ميتة. (بصيرة؟ ربما.)
"بما يعني بالضبط ماذا؟" (بحاجبين مقوسين، وشعور خفيف بالضيق.)
حاولت أن أوضح، لكنني لم أفلح تمامًا في هذه المهمة. أحيانًا ما أكون بحاجة للكتابة كي أفكر. لذلك كتبت لها على منديل ورق. وهذا ما كتبته لها: كي تحظيّن بالحب. كي لا تنسيّ وضاعتك أبدًا. كي لا تصبحي أبدًا معتادة على العنف الفادح والتباين الهمجي للحياة من حولك. كي تنعمي بالبهجة في أكثر الأماكن بعثًا على الحزن والكآبة. كي تقتفي أثر الجمال حتى في أخفى مكامنه. حتى لا تُبَسّطي ما هو معقد وتعقدين ما هو بسيط. كي تحترمين القوة. وفوق هذا كله، كي تتمكني من الملاحظة. لابد من محاولة الاستيعاب. لابد من عدم النظر بعيدًا. من عدم النسيان أبدًا، أبدا.
لقد عرفتها لسنوات عديدة، صديقتي هذه. هي أيضًا المهندسة معمارية.
كانت تبدو في حالة من الريبة، وإلى حدٍ ما لم تكن مقتنعة بكلامي الذي كتبته على المنديل الورق. أخبرتها بهذا إنشائيًا، تمامًا بالطريقة السردية المتأنقة المتناسقة للأشياء، ولأنها تحبني، فقد كان اهتزازها طربًا بـ"نجاحي" في غاية الحدة، لدرجة أنه ضاهى في حجمه فزعها "المسبق" من فكرة موتي. أدركت أنه ليس هناك شيء شخصي. مجرد شيء مُخَطَط. على أية حال، بعد أسبوعين من هذا الحوار، رجعت إلى الهند. إلى ما كنت أفكر/ فكرت فيه على أنه البيت/ الوطن. ثمة شيء كان قد مات لكنه ليس أنا. كان شيئًا أثمن بكثير جدًا. لقد كان عالمًا توجع لفترةٍ، وأخيرًا لفظ أنفاسه الأخيرة. وقد أقيمت له الآن طقوس حرق جثته. كان الهواء مطلق القبح، مثخنًا به، وثمة رائحة فاشيّة واضحة تعلق بالهواء.
يومًا بعد يوم، بدأت افتتاحيات الصحف، والإذاعة، والحوارات التليفزيونية، ومحطة الـ "إم تي في" التليفزيونية في برنامجها
¨For Heaven’s Sake، والناس الذين يمكن الثقة في فطرتهم السليمة ـ الكُتاب، والفنانين التشكيليين، والصحفيين ـ في المبادرة بالمقاومة. تسربت الرجفة إلى عظامي عندما أدركت من دروس الحياة اليومية، وبجلاء باعث على الألم، أن ما نقرأه في كتب التاريخ حقيقي. أن الفاشية، في واقع الأمر، متجذرة في الناس بنفس درجة تجذرها في الحكومات. وأنها تبدأ في البيت، في غرف الصالون. في الأسِرة.
"انفجار تقييم الذات Explosion of Self-Esteem"، "الطريق إلى النهوض ِRoad to Resurgence"، "لحظة مِنْ الفخرِ A Moment of Pride" ـ كانت تلك هي عناوين الصحف في الأيام التي تَلَت التجارب النووية. "لقد أثبتنا أن لم نعد خصيان بعد،" قال مستر ثاكيراي إلى أحد معاونيه الذي رد قائلاً (ومن الذي قال أننا كنا خصيانا؟ حقيقي، أن عددًا كبيرًا منّا نساء، لكن ذلك، قدر ما أعرف، لا يعني نفس الشيء.) كلما قرأت الصحف، غالبًا ما يصعب عليّ أن أقول متى يتحدث الناس عن الفياجرا (التي كانت تتنافس لتأخذ مكانها في الصفحات الأولى) ومتى يتحدثون عن القنبلة النووية ـ "إن لدينا قوتنا ونفوذنا أكثر تفوقًا." (كان هذا كلام وزير دفاعنا بعد أن أتمت باكستان من تجاربها النووية.)
(إنها لم تكن فقط تجارب نووية، بل كانت تجارب للتجييش القومي أيضًا،) كانوا يُعلوننا بهذا كثيرًا.
مرارًا وتكرارًا، كان هذا التصريح بمثابة طرقات المطرقة التي تدوي في الوطن. القنبلة هي الهند. الهند هي القنبلة. ليست الهند فقط، بل الهند الهندوسية. لذا، فلتحذر، فأي انتقاد لهذا لا يعتبر فقط مناوأة للقومية فحسب، بل مناوأة للهندوسية أيضًا. (بالطبع، القنبلة في باكستان إسلامية. وبخلاف هذا، نفس الخصائص والظواهر يتم تطبيقها من وجهة النظر السياسية.) وهذه واحدة من الفوائد المباغتة للقنبلة النووية. فليس بإمكان الحكومة استخدامها ـ القنبلة النووية ـ لتهديد العدو فحسب، ولكنها تستخدمها لتعلن الحرب على شعبها أيضًا. نحن Us.
عندما أخبرت أصدقائي بشروعي في كتابة هذا، حذروني. ’تقدمي،‘ قالوا، ’لكن كوني أولاً على يقين من أنك بعيدة عن أي خطر وبعيدة عن كل مواضع النقد. كوني واثقة من أن أوراقك مُرَتَبَة. وأنك قد دفعت الضرائب المستحقة عليك.‘
أوراقي مُرَتَبَة. ضرائبي مدفوعة. لكن كيف لأي شخص أن يؤمن وجوده في جوٍ كهذا وظروفٍ كهذه؟ كلنا عرضة للخطر. الحوادث تقع. هناك أمان في الإذعان فقط. وبينما كنت أكتب، افترستني الهواجس. في هذا البلد، كنت أعرف حقًا ماذا يعني للكاتب أن يشعر بأنه موضع حب (و، بدرجةٍ ما، موضع كراهية أيضًا).
في العام الماضي كنت واحدة من الشخصيات في موكب استعراضي تنظمه وسائل الإعلام تحت اسم موكب الفخر القومي لنهاية العام. وإمعانًا في التعذيب والخزي، كان بين الآخرين أحد صناع القنبلة النووية وإحدى ملكات جمال الهند العالميات. وبين الحين والآخر، يستوقفني شخص مبتهج في الشارع ويقول، ’لقد رفعت رأس الهند عاليًا‘ (مشيرًا إلى جائزة بوكر التي فزت بها، وليس إلى الكتاب الذي ألَفْتَه)، شعرت بقليل من عدم الارتياح. شعورٌ أفزعني وقتئذٍ ويصيبني الآن بالهلع، لأنني أدرك بأي سهولة يتضخم، هذا المد العاطفي، وينقلب عليّ. ربما قد آن الأوان لهذا. سوف أخرج من تحت أضواء الزينة هذه، وأعلن عما يجول بذهني.
هكذا: إذا ما اعترضت على امتلاك الهند لقنبلة نووية مزروعة في عقلي فهذا مناوئ للهندوسية والقومية، حينئذٍ أنسحب. وهنا أعلن نفسي مستقلة، جمهورية متحركة. أنا مواطنة جنسيتي كوكب الأرض. ليس لدي جغرافيا، ولا راية. أنا أنثى ولكن لست مناهضة للخصيان. ميولي السياسية بسيطة. أنا مستعدة للتوقيع على أية معاهدة لمنع انتشار الأسلحة النووية أو أية معاهدة لتحريم أية تجارب نووية. باب الهجرة مفتوح للجميع. بإمكانك مساعدتي في تصميم عَلَمِنا.
لقد مات عالمي. وأنا أكتب لرثائه.
لا شك أننا بصدد عالمٍ متصدع. عالم غير قادر على الحياة والنمو. عالم جريح تعتريه الندوب والتقرحات. عالم، أنا نفسي، انتقدته بلا هوادة وبقسوة، لكن فقط لأنني أحبه. الموت ليس جديرًا به. والتمزق أيضًا ليس جديرًا به. سامحني، فالنزوع إلى العاطفة ـ في هذه الحالة ـ ليس من رباطة الجأش في شيء. ـ لكن ماذا أفعل مع شعوري بالأسى والكآبة؟
لقد أحببته ـ ببساطة ـ لأنه منح الإنسانية اختيارا. كانت صخرة خارج البحر. شعاع ضوء عنيد أصر أن هناك طريقة مختلفة للحياة. الإمكانية الوظيفية. حق اختيار حقيقي. كل هذا قد تلاشى الآن. الطرق التي تُجْرى بها التجارب النووية الهندية، الإيفوريا التي نتلقى بها هذه التجارب، لا يمكن تبريرها أو الدفاع عنها. تعني، بالنسبة لي، أشياء مروعة. نهاية الخيال. نهاية فعلية للحرية، لأنه، ورغم كل هذا، الحرية ليست سوى. اختيار.
في الخامس عشر من أغسطس/ آب من العام الماضي احتفلنا بالذكرى الخمسين لاستقلال الهند. في العام القادم يمكننا أن نسجل الذكرى الأولى لعبوديتنا النووية.
لماذا فعلوا هذا؟
النفعية السياسية هي الإجابة الكلبيّة الواضحة، فيما عدا هذا فهي تطرح سؤالاً آخر أكثر محورية: لماذا ينبغي أن تكون الإجابة بالنفعية على المستوى السياسي؟ هناك ثلاثة أسباب رسمية مُعْلَنة: الصين، وباكستان، وفضح الرياء الغربي. بتحري القيمة الظاهرية ومناقشتها بدقة، نجد أنها ـ الأسباب الرسمية المعلنة ـ عبثية ومُربِكة. أنا لا أفترض للحظة أن هذه القضايا ليست حقيقية. فقط أقول بأنها ليست بالجديدة. الشيء الجديد فقط في الأفق القديم هو الحكومة الهندية. قال رئيس وزرائنا في خطابه المتعجرف للرئيس الأمريكي (لماذا أرهقت نفسك بالكتابة لو أنك كنت ستكتب بهذه الطريقة) إن قرار الهند بالمُضي قُدُمًا في تجاربها النووية كان ناتجًا عن "بيئة أمْنِية فاسدة." واستأنف كلامه مُذَكِرًا بحرب 1962 مع الصين وأنـ "نا عانينا من ثلاث موجات من العدوان خلال النصف قرن الأخير [بواسطة باكستان]. وخلال العقد الماضي كنا ضحية إرهاب وقتال متواصليّن من دعمها.... خاصة البنجاب والجامو وكشمير."
إن الحرب مع الصين تبلغ الآن من العمر ست وثلاثين سنة. ومن المؤكد أن الأمور تبدو وكأنها تحسنت قليلاً بيننا، إن لم يكن هناك حالة سرية وحية من التوتر والتأزم لا نعرف شيئًا عنها. الحرب الأخيرة مع باكستان كانت منذ سبع وعشرين عامًا مضت. ومما لا شك فيه أن كشمير لم يزل على حاله كإقليم ينطوي على مشاكل طاعنة في العمق، وباكستان، بلا ريب تنفخ في هذه النار لإشعالها. لكن في المقام الأول هل من المؤكد حتمية وجود نار للنفخ فيها؟ كشمير، ولذلك، آسام، تريبورا، ناجلاند ـ وفي الواقع كل أقاليم الشمال الشرقي ـ جارخاند، أوتراخاند وكل الصراعات التي لم تزل قيد التصعيد ـ كلها أعراض قلق وإزعاج أكثر عمقًا وحِدة. وجميعها غير قابلة، ولن تكون قابلة للحل بتوجيه القذائف النووية صوب باكستان. حتى قضية الصراع مع باكستان لا يمكن حلها بإشهار الأسلحة النووية في وجه باكستان. على الرغم من أننا دولتين منفصلتين، إلا أن نتقاسم نفس السموات والرياح والماء. حيث سيعتمد أي هبوط أي غبار ذري مُشِع في أي يوم على اتجاه الرياح والمطر. إن لاهور تبعد مسافة ثلاثين ميلاً عن آمريستار. لو ألقينا القنبلة على لاهور، فسوف تحترق البنجاب. لو فعلنا نفس الشيء مع كاراتشي ـ حينئذٍ ستحترق جوجارات وراجاستان، وربما بومباي أيضًا. إن أية حرب نووية مع باكستان سوف تكون حربًا ضدنا نحن.
أما بالنسبة للسبب الرسمي الثالث: فضح الرياء الغربي ـ إلى أي مدى نحن بحاجة لفضحه أكثر من ذلك؟ هل هناك آدمي محترم يحمل في عقله أية أوهام حول هذا الأمر؟ إنها شعوب ذات تاريخ مُشَبَع بدماء الآخرين. الكولونيالية، وسياسة التمييز العنصري، والرق، والتطهير العرقي، والحرب الجرثومية، والأسلحة الكيماوية ـ كل هذا فعليًا من اختراع هذه الدول. لقد سلبت الأمم، وأزالت الحضارات، وأبادت جماعات بشرية برمتها. إنها دول تقف على مسرح العالم في حالة من العراء السافر دون أي شعور بالارتباك، لأنها تعرف أن لديها أموالاً أكثر، وطعامًا أكثر وقنابل أكبر من التي تملكها أي دولة في العالم. هم يدركون قدرتهم على إبادتنا في يوم واحد من أيام عملهم. بشكل شخصي، يمكنني أن أقول أن هذا أقرب إلى الغطرسة منه إلى الرياء. إن لدينا طعامًا أقل، وأموالاً أقل وقنابل أصغر. لكن لدينا، أو كان لدينا، كل أنواع الثروات الأخرى. مُبْهجة ولا حصر لها. وما قد حققناه بها على النقيض تمامًا مما نظن. لقد وضعناها قيد الارتهان. وبالمعنى الأوسع للأشياء، لقد وافقنا الاشتراك في لعبتهم وبشروطهم؛ وبنفس طريقتهم في اللعب.
بوجه عام، أظن أنه من العدل أن أعلن أننا منافقون. نحن من هجرنا ما كان يُعْتَبَر موقفًا أخلاقًيا قابلاً للنقاش، على سبيل المثال: لدينا التكنولوجيا، بإمكاننا إنتاج القنبلة إذا ما أردنا، لكننا لن نفعل. نحن لا نؤمن بهم. نحن من أثاروا هذه الجلبة الجبانة كي يُسمح لنا بدخول نادي القوى العُظْمى. فطلب الهند للحصول على مكانة بين القوى العظمى يعتبر مثيرًا للسخرية تمامًا مثل أن نطلب اللعب في نهائيات كأس العالم ببساطة لمجرد أن عندنا كرة. بغض النظر عن كوننا مؤهلين أم لا، أو ما إذا نلعب الكرة كثيرًا وليس لدينا فريق.
نحن أمة قوامة بليون نسمة. ومن وجهة النظر التنموية فنحن في المرتبة رقم 138 من بين 175 دولة في قوائم الأمم المتحدة. أكثر من 400 مليونًا من سكان بلادنا يعانون الأمية ويعيشون في فقر مدقع، وأكثر من 600 مليون نسمة من شعبنا ليس لديهم مياه صالحة للشرب. القنبلة النووية لن تعمل على تحسين أيٍ من هذه الأوضاع.
نحن في الهند شعب قديم يتعلم العيش في دولة جديدة. القنبلة النووية وتدمير مسجد باربي في آيودهيا هما جزءًا من نفس العميلة السياسية. إنهما المحصلة البشعة لأمة تبحث عن نفسها. لجهود الهند من أجل تزييف هوية قومية. لتعريف معنى أن تكون هنديًا. كلما كانت الأمة معتورة بالفقر، كلما ازداد عدد الأميين وازداد الإفلاس الأخلاقي لقادتها، وازدادت فكرة ما تعنيه أو ينبغي أن تعنيه كلمة الهوية تخثرًا وفداحةً وخطورة.
إن الشباب الساخر المستهزئ الذي هدموا مسجد باربي هم أنفسهم الشباب الذين ظهرت صورهم في الصحف في اليوم التالي للتجارب النووية. كانوا في الشوارع يحتفلون بقنبلة الهند النووية وفي الوقت ذاته "يشجبون ويستنكرون الثقافة الغربية" بتفريغ صناديق البيبسي والكولا في مصارف المياه العامة. إنني أشعر بقليل من الحيرة تجاه سلوكهم ومنطقهم: البيبسي من قبيل الثقافة الغربية، لكن هل القنبلة النووية من التقاليد الهندية القديمة؟
نعم، لقد سمعت ـ القنبلة في الفيداس
¨. ربما يكون هذا صحيحًا، لكن إذا ما نظرت بحدةٍ أكثر، فسوف تجد الكوك في الفيداس أيضًا. وهذا أعظم ما في النصوص الدينية. بإمكانك أن تجد أي شيءٍ تريده فيها ـ بقدر وعيك بما تبحث عنه بين طياتها. لكن لنرجع إلى التسعينيات اللافيداوية©: إننا نعَصِفُ بقلب البياض، ونعانق أكثر إبداعات العلم الغربي وحشيةً وفظاعة ونسميه أحد إبداعاتنا. لكننا نعترض على موسيقاهم، وأطعمتهم، وملابسهم، وسينماتهم، وآدابهم. أليس هذا نفاقًا. هذه الازدواجية مثيرةٌ للضحك فعلاً. إن هذا مضحك بما يكفي لإضفاء البسمة على جمجمة.
نحن عائدون على متن السفينة القديمة. سفينة العرقية والهندية.
إذا ما كان هناك تأييد للعرقية/ حملة مناهضة للقومية، فكان لزامًا على الحكومة، ربما، أن تضع تاريخها في النصاب الصحيح، وكذا تصوب حقائقها. وإذا ما كانوا سيفعلون هذا، فينبغي أن يتم هذا بشكل لائق وصحيح. أولاً، السكان الأصليون لهذه الأرض لم يكونوا هندوسيين. فعلى الرغم من قدم الهندوسيين، فقد كان هناك كائنات بشرية على الأرض قبل ظهور الهندوسية. أليس لشعب الهند القبلي الكثير من الحق في المطالبة بوجوده الطبيعي على هذه الأرض أكثر من أي شخصٍ آخر، وكيف تتم معاملتهم من قبل الدولة وموظفيها؟ يُقْمَعُون، يُخْدَعون، تُسْلَب منهم أراضيهم، يُهَمَشون في كل مكان مثل فضلات السلع. ربما تكون نقطة البداية المُثْلى هي استعادتهم لكرامتهم المسلوبة منهم. ربما تستطيع الحكومة أن تمنح ضمانًا عامًا بعدم بناء سدود أكثر مثل الساردار والساروفار على النارمادا في المستقبل. لكن هذا بالطبع غير مقنع، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأن هذا يعتبر غير عملي. لأن أبناء القبائل ليس لهم أية أهمية. تاريخهم/ تآريخهم، عاداتهم، آلهتهم، كل هذه الأشياء ليست ضرورية في شيء. لابد أن يتعلموا التضحية بهذه الأشياء من أجل الصالح الأعلى للأمة (التي سلبتهم كل ما كانوا يملكون من قبل).
اتفقنا، إذًا لننحي هذه الفكرة جانبًا.
أما بخصوص الباقي، فبإمكاني أن أُصَنف قائمة من الأشياء العملية التي يتحتم منعها، والبنايات التي ينبغي تدميرها. إن هذا سوف يحتاج لبعض البحث، لكن يطفو على ذهني، هنا بضعة اقتراحات. بإمكان الحكومة أن تبدأ بمنع عدد من المكونات من مطبخنا: الفلفل الأحمر (المكسيك)، الطماطم (بيرو)، البطاطس (بوليفيا)، القهوة (المغرب)، السكر الأبيض، والقِرفَة (الصين) ـ من الممكن أن تتحول هذه الأشياء إلى وصفات. الشاي باللبن والسكر، مثلاً (بريطانيا). بطبيعة الحال، التدخين ليس محل سؤال. فالتبغ يأتي من أمريكا الشمالية. الكروكيه، واللغة الإنجليزية، والديمقراطية لابد من تحريمها جميعًا. نستبدل الكروكيه بألعاب مثل الكابادي أو الخوـ خو. لا أريد أن أبدأ في نوع من المرح الصاخب أو المشاغبة، لذلك فأنا مترددة في طرح بدائل للغة الإنجليزية (الإيطالية؟ لقد وجدت طريقها إلينا عبر طريق أكثر ودًا: الزواج، وليس الإمبريالية). لقد ناقشنا بالفعل (مسبقًا في هذا المقال) البديل المتنامي والمقبول بشكل واضح للديموقراطية. كل المستشفيات التي يمارس أو يُستخدم فيها الطب الغربي لابد وأن تُغْلَق. كل الصحف القومية لابد وأن يتوقف صدورها. وتُفَكَك طرق السكك الحديدية. وتُغْلَق المطارات. وماذا عن دُمْيَتِنا الجديدة ـ الهاتف المحمول؟ هل بإمكاننا العيش بدونه، أم هل ينبغي عليّ أن أقترح استثناءه؟ بإمكانهم تسجيله في عمود ونطلق عليه "من الكونيات" (السلع الأساسية فقط سوف تُدْرَج هنا. لا مكان للموسيقى، أو الفن، أو الأدب.) لست في حاجة لأن أقول إن إرسال أبنائك إلى الجامعة في الولايات المتحدة أو الطيران إلى هناك بنفسك لإجراء جراحة البروستاتا سوف يكون من الإساءات الملموسة.
ستكون قائمة طويلة، طويلة. سوف تتطلب سنوات من العمل والبحث. ليس بإمكاني استخدام جهاز الكمبيوتر لأنه ليس من ممتلكاتي الأصلية، أليس كذلك؟ لا أعني شيئًا من الاستظراف، فلو قمت بمجرد تفسير لهذا فأنا على طريق مختصر للجحيم. ليس هناك شيء اسمه الهند الأصلية أو الهند الحقيقية. ليس هناك لجنة لاهوتية لها حق التصديق على نسخة واحدة موثقة لما ينبغي أن تكون عليه الهند. ليس هناك دين واحد أو لغة واحدة أو طائفة اجتماعية أو دينية واحدة أو إقليم واحد أو شخص بعينه أو قصة أو كتاب يستطيع أن يدعي أنه هو الممثل الوحيد للهند. هناك، أو يمكن أن يكون هناك، تجليات للهند، طرق متعددة للنظر إليها ـ أمينة، غير أمينة، رائعة، عبثية، عصرية، تقليدية، ذكورية، نسوية. يمكن الجدل حولها، نقدها، مدحها، ازدرائها، لكن لا يمكن تحريمها أو تهشيمها. لا يكن طردها أو إبادتها.
التمترس ضد الماضي ليس الطريق لإبرائنا وشفائنا. لقد أصبح التاريخ واقعًا. لقد انتهى الأمر. كل ما يمكننا عمله هو تغيير مساره بتشجيع ما نحب بدلاً من تدمير ما نكره. لم يزل هناك، رغم ذلك، جمال في عالمنا المهشم والمستوحش هذا. جمالٌ كامنٌ قوي هائل. جمال متفرد يخصنا، وجمال تلقيناه بفضل من الآخرين، وتم تعزيزه وتجميله وابتكاره ليلاءم معنا. ينبغي أن نقبض عليه ونرعاه، ونحبه. إن صناعة القنابل لن يؤدي إلا إلى دمارنا. ليس السؤال حول ما كنا سنستخدمها أم لا. سوف تدمرنا هذه القنابل في الحالتين.
إن قنبلة الهند النووية هي الممارسة الأخيرة التي تبنتها الطبقة الحاكمة التي فشلت وأفلست مع شعبها. ومع أننا نكوم الأكاليل على علمائنا، ونعلق على صدورهم الكثير من الميداليات، فالحقيقة تقول إن صناعة القنبلة أسهل بكثير من تعليم 400 مليون نسمة.
وفقًا لاستطلاعات الرأي، فمن المتوقع أن نُسَلِّم بفكرة أن هناك إجماع قومي على القضية. رسمية الآن. الجميع يحبون القنبلة. (ولهذا فالقنبلة شيءٌ حسن).
هل من الممكن على الإنسان الذي لا يستطيع كتابة اسمه أن يستوعب حتى الحقائق الأولية والرئيسة الخاصة بطبيعة السلاح النووي؟ هل هناك من أخبره ـ هذا الإنسان ـ أن الحرب النووية لها علاقة مُطلَقة بأفكاره التي تلقاها عن الحرب؟ لا شيء له علاقة بالشرف، لا شيء له علاقة بالفخر؟ هل هناك من أزعج نفسه وشرح له شيئًا عن العواصف الحرارية، الغبار الذري المُشِع والشتاء النووي؟ هل هناك في لغته كلمات لوصف مصطلحات اليورانيوم المُخَصَب، الكتلة الحرجة والمواد القابلة للانشطار؟ أم أن لغته نفسها قد أصبحت مُطْلَقة؟ هل هو سجين في كبسولة الزمن، يشاهد العالم وهو يَمُر به، وهو غير قادرٍ على استيعابه أو الاتصال لأن لغته لا تضع في حسبانها أشكال الهلع التي بلغها الجنس البشري؟ ألا يبالي هذا الآدمي مطلقًا؟ هل سنعامله على أنه مجرد مصاب بنوع ما الاعتلال العقلي؟ لو انه طرح أي سؤال، نجهده بحبوب اليود، وحكايات عن لورد كريشنا وكيف رفع تلاً، أو كيف أن تدمير هانومان للانكا كان حتميًا لكي يحافظ على عِفة سيتا وسُمْعَة رام؟ نستخدم قصصه الجميلة كأسلحة ضده؟ هل سنطلق سراحه من كبسولته أثناء الانتخابات فقط، وبعد أن يُصَوِت، نهزه بأيدينا، ونتملقه بهراء عن حكمة رجل الشارع ونعيد ثانيةً إلى الكبسولة؟
بالطبع، أنا لا أتحدث عن رجل واحد بعينه. بل عن ملايين وملايين من الناس يعيشون في هذه البلد. تعرف، إنها بلادهم أيضًا. ولهم الحق في اتخاذ قرار بخصوص مصيرها وبقدر ما أعرف، ليس هناك من أخبرهم بأي شيء. والمأساة أنه ليس هناك من يستطيع، حتى لو أرادوا. حقيقةً، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى، ليس هناك لغة نفعل بها إخباره. هذا هو الذعر الحقيقي للهند. مدارات الأقوياء والضعفاء تتباعد وتتنافر عن بعضها البعض، لن تتقاطع، وستتقاسم العدم. فلا وجود للغة، ولا حتى وطن.
من بحق الجحيم قاد استطلاعات الرأي تلك؟ من بحق الجحيم يكون رئيس الوزراء هذا ليقرر من سيضغط بإصبعه على الزر النووي الذي سيُحيل كل شيء نحبه ـ أرضنا، سمواتنا، جبالنا، مروجنا، أنهارنا، مدننا وقُرَّانا ـ إلى رمادٍ في لحظة؟ من يكون هو بحق الجحيم ليؤكد لنا أنه لن تقع حوادث؟ كيف واتته المعرفة؟ لماذا ينبغي علينا أن نثق به؟ ماذا قدم لنا كي نثق به؟ ماذا قدم لنا أيهم لنمنحه ثقتنا؟
إن القنبلة النووية هي أكثر الأشياء التي اخترعها الإنسان شرًا على الإطلاق، هي العدو الأكبر للديمقراطية والإنسانية والقومية. لو كنتم مؤمنين، تذكروا أن هذه القنبلة هي تحدي الإنسان لله. إنها كلمة غاية في البساطة: لدينا القوة لتدمير كل ما قد خلقت. لو كنتم (مؤمنين)، فلتنظروا إلى الأمور بهذه الطريقة. عالمنا هذا الذي يبلغ من العمر ستة آلاف وأربعمائة مليون سنة. يمكن أن ينتهي ذات ظهيرة.
المقال مترجم عن الإنجليزية (لغته الأصلية) من مجلتي Frontline and Outlook الهنديتين عدد 27 يوليو/ تموز. Copyright Ó1996, The Nation Company, L.P.
¨ كاتبة وروائية هندية فازت بجائزة بوكر العام 1997، عن روايتها [إله الأشياء الصغيرة The God of Small Things]، وصدرت ترجمتها العربية عن دار ميريت للنشر بالقاهرة العام 2003 ترجمة: طاهر البربري.
· كاتب ومترجم مصري.
· باروكي: خاص أو متعلق أو متسم بأسلوب في التعبير الفني ساد في القرن السابع عشر وهو يتميز بدقة الزخرفة وغرابتها وبالتعقيد والصور الغريبة الغامضة وخاصةً في الأدب (المترجم).
¨ لأجل السماء (المترجم).
¨ كتب الهندوس الدينية الأربعة (المترجم).
©الفيداوي: نسبةً إلى الفيدا (كتب الهندوس الدينية الأربعة)، والفيدانتا Vedanta نظام فلسفي ديني مبني على الفيدا (المترجم).

من رواية ميراث الخسران الفائزة بجائزة بوكر 2006


كيران ديساي
ميراثُ الخُسْران


خُيلاء العزلة
الكتابة عن النور تَنْقَضُ على الظُلمةِ، بهولٍ أكثر من الشهب.
المدينةُ الباهظةُ الغامضةُ تقهرُ الريف.
واثقًا من حياتي ومن موتي، أراقب الطموحين وأود لو أفهمهم.
يومهم شَرِهٌ مثل وَهْقٍٍ
[1] في الهواء.
ليلهم كأنه ارتياح من الغضب في الفولاذ، نَزِقٌ للانقضاض.
يتحدثون عن الآدمية.
آدميتي في الشعور بأننا جميعًا أصوات لنفس الفقر.
يتحدثون عن الوطن.
وطني في أنغام الجيتار، بضع لوحات، سيف قديم،
الصلاة المرئية لأيكة الصفصاف مع هبوط الليل.
يعيشني الزمنُ.
صامتًا أكثر من ظلي، أمر عبر العامة بشراهتهم المتغطرسة.
إنهم حتميون، غرباء، جديرون بالغد.
اسمي شخصٌ ما وأي شخص.
أمشي ببطءٍ، مثل واحدٍ أتى من أقاصي البعيد ولا يأمل وصولا.

خورخي لويس بورخيس


ميراثُ الخُسْران
1

طوال اليوم، كان للألوان ما للغسق من ألوان، سديمٌ يتحرك مثل مخلوق ماء عبر الجنبات الهائلة لجبال تستحوذ عليها ظلال المحيطات وأعماقها। أعلى الضباب كان كانتشينچونجا يظهر شحيحًا وكأنه منقارٌ بعيد تَشَكل من الثلج، يجمع خواتيم الضوء، ريشة من جليد تطايرت لأعلى من جراء العواصف أعلى قمته।
ساي، جالسةٌ في الشرفة، كانت تقرأ مقالةً عن السَّبيدَج
[2] العملاق في عدد قديم من مجلة الناشيونال جيوجرافيك National Geographic. بين الحين والآخر، كانت ترفع رأسها لتنظر على كانتشينچونجا، برجفةٍ، أدركت وميضه الفسفوري الساحر. القاضي جلس في الركن القصي مع رقعة شطرنجه، مباريًا نفسه. ماط، الكلبة، انحشرت تحت كرسيه حيث شعرت بالأمان، وأخذت تغط في نومها برفق. لمبة إنارةٍ عارية وحيدة تدلت من سلك أعلاه. كان الجو باردًا، لكنه كان لم يزل أكثر برودةً داخل المنزل، الظلمة، الصقيع تحتويهما حجارة الجدران لعدة أقدام في العمق.
هنا، في المؤخرة، داخل المطبخ الكهفي، كان الطباخ، يحاول أن يشعل الحطب الرطب. مس بأصابعه الضَّرَم
[3] في حذر، خشية أن يكون مجتمع العقارب حيًا، متحابًا، يتكاثر في المَحْرَقة. ذات مرة وجد أمًا، منتفخةً بالسم، على ظهرها أربعين وليدا.
أخيرًا، اضطرمت النيران في الحطب ووضع غلايته على قمتها، مائلةٌ للخلف، تطوقها قشرةٌ وكأنها شيء استخرجه بالحفر فريق من الأثريين، وانتظرها حتى تغلي. كانت الجدران مسفوعة ومُخْضَلّة، الثوم مُعَلقٌ من سيقان موحلة في روافد خشبية متفحمة، أيكات من السناج متغضنة لها شكل الخفاش تستعمر السقف. ألقى اللهب بفُسَيْفساء من البرتقالي الوضاء على وجه الطباخ، واحتر نصفه العلوي، لكن عصفة نار دنيئة عذبت ركبتيه المريضتين بالتهاب المفاصل.
لأعلى عبر المدخنة وللخارج، امتزج الدخان مع السديم الذي كان يستجمع السرعة، ويكتسح الأشياء بكثافة أكثر وأكثر جزئيًا ـ نصف التل، ثم النصف الآخر. الأشجار التي استحالت سيلويتات، لاحت للأمام، واحتُجِبَت ثانيةً. تدريجيًا أحل الضباب نفسه محل كل شيء، الملموسات بالظلال، ولا شيء بقيَّ إلا وتَشَكل به أو خُلَّق منه. تطايرت أنفاس ساي من فتحتيّ أنفها في تيارات متلاحقة، والصورة التخطيطية للسَّبيدَج العملاق، المُشَيَّد من قصاصات المعلومات، أحلام العلماء، غرقت تمامًا في الظُلمة.
أغلقت المجلة ومضت للخارج إلى الحديقة. كانت الغابة قديمةً وكثيفةً على حافة المرج؛ أيكة البامبو ترتفع ثلاثين قدمًا في غياهب العتمة؛ كانت الأشجار مثل عمالقة معلقة بالطحلب، متورمةً ومشوهة، تجسها جذور الأوركيد، وعندما فردت أصابعها للخارج، أستولى عليها الضباب برفقٍ داخل فمه. فكرت في جيان، مدرس الرياضيات، الذي كان ينبغي أن يصل قبل ساعةٍ مضت ومعه كتاب الجبر.
لكن الساعة كانت الرابعة والنصف بالفعل فالتمست له العذر بسبب السديم المتكاثف.
عندما نظرت للخلف، كان المنزل قد اختفى؛ عندما عادت تصعد الدرج ثانيةً إلى الشرفة، تلاشت الحديقة. كان القاضي قد سقط نائمًا والجاذبية تلعب دورها على العضلات المرتخية، تسحب خط فمه، وتَمُط وجنتيه، بينت لساي بالضبط صورة وجهه لو كان ميتا.
’أين الشاي؟‘ استيقظ وطلب منها. ’لقد تأخر،‘ قال القاضي، كان يقصد الطباخ والشاي، وليس جيان.
’سأحضره،‘ عرضت عليه.
كان الرمادي قد نفذ إلى الداخل، أيضًا، واستقر على أنية المائدة الفضية، متطفلاً على الأركان، محولاً المرآة التي في الممر إلى غيمة. في طريقها إلى المطبخ، لمحت ساي نفسها مكفهرة ومالت للأمام لتبصم بشفتيها على سطح المرآة، قبلة مكتملة الشكل من نجمة سينمائية. ’هالوو،‘ قالت، نصف لها، ونصف لشخصٍ ما آخر.
لم يحدث أبدًا أن رأى آدميٌ سَّبيدَج عملاق حيًا، ورغم أن لهم عيون كبيرة بحجم التفاح لاختراق ظلمة المحيطات، إلا أن حياتهم كانت عزلة بالغة العمق لدرجة أن الواحد منهم لا يلقى غيره من أفراد عشيرته. ساي استغرقتها كآبة الموقف.
هل يمكن أن يكون الشعور بالإنجاز بنفس عمق الشعور بالخسران؟ برومانسية قررت أن الحب لابد يقينًا أن يكمن في الفجوة بين الرغبة والتحقق، في الاحتياج، وليس في القناعة. كان الحب هو الألم، التوقع، التراجع، كل شيء حوله إلا العاطفة نفسها.
ـــــــ

وصل الماء إلى درجة الغليان ورفع الطباخ الغلاية وأفرغها في إبريق الشاي.
’فظيع،‘ قال. ’عظامي تؤلمني ببشاعة، مفاصلي تتمزق ـ ربما أكون ميتًا أيضًا, لو لم يكن لأجل بيچو...‘ بيچو هو ابنه المقيم في أمريكا. كان يعمل في دون بوللو ـ أم في البندورة الحارة؟ أو فرايد تشيكن علي بابا؟ لم يكن أبوه يتذكر أو يفهم أو ينطق الأسماء، وكثيرًا ما يُغَير بيچو وظيفته، وكأنه مطاردٌ باستمرار ـ ليس لديه أوراق.
’نعم، الجو غائم ومضبب جدًا،‘ قالت ساي. ’لا أظن أن المدرس سوف يأتي.‘ رتبت الأكواب، والسكريات، وإبريق الشاي، والحليب، والمصفاة، وبسكويت ماري آند ديلايت، بحيث توضع جميعها على الصينية.
’سآخذها،‘ عرضت.
’بحذر، بحذر،‘ قال مُعَنِفًا، وتبعها بإناء مزخرف السطح به حليب لماط. عندما رأت ساي تنزلق للأمام، والملاعق تُصدر موسيقى عصبية على فرخ القصدير الملفوف، رفعت ماط رأسها. ’وقت الشاي؟‘ قالت عيناها بينما اهتز ذيلها بحيوية.
’لماذا لا يوجد شيء نأكله؟‘ قال القاضي، سأل القاضي بغضب، وهو يرفع أنفه عن مستنقع البيادق في وسط رقعة الشطرنج.
ثم، نظر إلى السكر في الإبريق: حبيبات قذرة لامعة تشبه المَيْكة
[4]. البسكويت يشبه الكرتون وهناك بصمات أصابع قاتمة على بياض السكريات. لم يُقدم الشاي أبدًا كما ينبغي، لكنه طلب كيك أو كعكات مدورة، مَعكرون[5] أو بسكويت بالجبن على الأقل. شيءٌ حلو أو شيءٌ مالح. كان هذا تقليدًا ساخرًا، وأبطل مفهوم وقت الشاي.
’بسكويت فقط،‘ قالت ساي ردًا على انفعاله. ’لقد ذهب الخباز لحضور زفاف ابنته.‘
’لا أريد بسكويتًا.‘
تنهدت ساي.
’كيف تجاسر وذهب لحضور حفل زفاف؟ هل تصلح هذه الطريقة لإدارة عمل؟ الأحمق. لماذا لا يستطيع الطباخ أن يفعل شيئًا؟‘
’لم يتبق شيءٌ من الغاز، لا يوجد كيروسين.‘
’لماذا بحق الجحيم لم يفعلها على الحطب؟ كل هؤلاء الطهاة القدامى بإمكانهم صنع الكيك بإتقان بالغ بواسطة رص الفحم حول صندوق من القصدير. أتظنين أنهم كانوا يستخدمون البوتاجازات، ومواقد الكيروسين، من قبل؟ فقط هم في غاية الكسل الآن.‘
خرج الطباخ مسرعًا بما تبقى من بودنغ الشيكولاتة الساخنة على النار في مقلاة، وأكل القاضي ملاط الشيكولاتة الجميل وتدريجيًا اعترته قناعة بودنغ متذمرة.
أكلوا وشربوا، كل الوجود تلاشى في العدم، البوابة التي تؤدي إلى لا مكان، وشاهدوا الشاي ينثر حُليقات شريطية متكاثرة من البخار، شاهدوا أنفاسهم تلتحم بالسديم الذي يلتوي ببطء ويدور، يلتوي يدور.
ـــــــ
لم يلحظ أحد الأطفال وهم يزحفون فوق العشب، ولا حتى ماط، حتى أصبحوا فعليًا أعلى الدرج. لم يكن ذلك هو المهم، لأنه لم يكن هناك مزاليج لتمنعهم من الدخول ولم يكن هناك أحد على مقربة باستثناء العم بوتي على الجانب الآخر من مَسِيل
[6] چورا، الذي كان يستلقي ثملاً على الأرض في هذه الساعة، كان يرقد مستكينًا لكنه كان يشعر بدوار ـ ’لا تكترثي بي، يا حبيبتي،‘ هكذا كان يقول لساي دائمًا بعد كل نوبة سُكْر، وهو يفتح إحدى عينيه مثل بومة، ’سأرقد هنا فقط وآخذ قسطًا من الراحة ـ‘
لقد أتوا عبر الغابة سيرًا على الأقدام، يرتدون چواكت جلدية من سوق كاثاموندو السوداء، وبنلطونات كاكي، وعصابات رأس ـ الزي الشائع لأفراد حرب العصابات. أحد الأولاد كان يحمل بندقية.
فيما بعد وجهت التقارير الاتهام إلى الصين، وباكستان، ونيبال، ولكن في هذا الجزء من العالم، مثل أي جزء آخر، هناك ما يكفي من السلاح يغمر المكان لحركة مُفْقَرة لقوة مسلحة رثة الثياب. كانوا يبحثون عن أي شيء موجود ـ مناجل، فؤوس، سكاكين مطبخ، جواريف، أي نوع من الأسلحة النارية الصغيرة.
لقد أتوا للاستيلاء على بنادق الصيد الخاصة بالقاضي.
رغم مهمتهم وملابسهم، كانوا غير مقنعين. أكبرهم كان يبدو تحت العشرين، ومع أول عواء من ماط، صرخوا مثل مجموعة من التلميذات، وتراجعوا أسفل الدرج وانكمشوا مرتعدين خلف الشجيرات التي أخفاها الضباب. ’هل تعض، يا زعيم؟ يا إلهي!‘ ـ وارتجفوا تحت مظهرهم الخادع.
بدأت ماط تفعل ما كانت تفعله دائمًا عند رؤية الغرباء: أدارت عجيزتها التي كانت تهتز غاضبةً ونظرت للخلف حولها، بابتسامة، وارفةٍ بالخجل والتمني.
خرج القاضي إليها، كارهًا أن يراها تذل نفسها هكذا، فدفنت أنفها في ذراعه.
عاد الأولاد مرة أخرى إلى أعلى الدرج، في ارتباك، وأصبح القاضي واعيًا لحقيقة أن هذا الارتباك على درجة من الخطورة لأن الأطفال لو أظهروا ثقة غير متذبذبة، لكانوا أقل ميلاً لثني عضلاتهم.
قال الولد الذي كان يحمل بندقية شيئًا لم يفهمه القاضي.
’ليس نيباليًا؟‘ أزبد، شفتاه كانتا تنخران لتعلن عن رأيه في ذلك، لكنه واصل كلامه بالهندية. ’بنادق؟‘
’ليس لدينا بنادق هنا.‘
’لابد وأنك ضُلِلت.‘
’لا يهم كل هذا الهراء. أحضرهم.‘
’أنا آمرك،‘ قال القاضي، ’أن تغادر أملاكي فورًا.‘
’أحضر الأسلحة.‘
’سأطلب الشرطة.‘
كان هذا تهديدًا ساخرًا لأنه لم يكن هناك تليفون.
أطلقوا ضحكات سينمائية، ثم، وكأنهم في فيلم سينمائي أيضًا، صوب الولد ذا البندقية فوهتها على ماط. ’هيا، أحضرهم، وإلا فسوف نقتل الكلب أولاً وبعده أنت، ثم الطباخ، النساء في النهاية،‘ قال، وهو يوجه ابتسامته إلى ساي.
’سأحضرهم،‘ قالت في هلعٍ وقلبت صينية الشاي وهي تمضي.
جلس القاضي وماط في حجره. البنادق يرجع تاريخها إلى أيام عمله في الخدمة المدنية الهندية. مسدس باريل بامب A BSA خمس طلقات، وبندقية سبرنج فيلد 30. a، بندقية بماسورة مزدوجة، وهولاند & هولاند. لم تكن موضوعة في صندوق مغلق: كانت معروضة عند أقصى الردهة أعلى صف مترب من لوحات لبرك بط مطلية بالأخضر والبني.
’إخيه، كلها صدئة. لماذا لا تعتني بها؟‘ لكنهم كانوا مبتهجين وتفاقم تظاهرهم بالشجاعة. ’سوف ننضم إليك لتناول الشاي.‘
’الشاي؟‘ سألت ساي بفزع بليد.
’الشاي وما معه من مأكولات خفيفة. أهكذا تعاملون الضيوف؟ تعيدوننا إلى البرد دون أن نتناول ما يُشْعِرنا بالدفء.‘ تبادلوا النظرات، ونظروا إليها، ولأعلى، ولأسفل، وغمزوا بعيونهم.
أحست بأنثوية منفعلة خائفة.
بالطبع، كل الأولاد يألفون المشاهد السينمائية التي يشرب فيها البطل والبطل، وهما في ثيابهما الشتوية الدافئة، الشاي الذي يقدمه لهم خدم مهذبون على آنية فضية. ثم ينتشر الضباب في المكان، تمامًا كما كان يحدث في الواقع، وهما يرقصان ويغنيان، ويلعبان البيكابوو
[7] في منتجع سياحي جميل. تلك كانت السينما الكلاسيكية التي كانت موجودة في كيولو مانالي أو في كشمير، أيام ما قبل الإرهاب، قبل أن يأتي المسلحون ويخترقون الضباب، مما استوجب صناعة نوعٍ جديد من السينما.
كان الطباخ يختبئ تحت السفرة وسحبوه للخارج.
’آي أااا،‘ شبك كفيه في بعضهما البعض، متوسلاً إياهم، ’من فضلكم، أنا رجل مسكين، أرجوكم.‘ رفع يديه لأعلى وانكمش وكأنه تلقى قبضة مفاجئة.
’إنه لم يفعل شيئًا، اتركه،‘ قالت ساي، متقززةً من أن تراه مذلولاً، متقززةً حتى أن ترى أن الطريق الوحيد المفتوح أمامه هو أن يذل نفسه أكثر من ذلك.
’أرجوكم أنا أعيش فقط لأرى ابني، أرجوكم لا تقتلوني. أنا رجل مسكين اتركوني.‘
لقد شُحِذت كلماته عبر القرون، وتناقلتها الأجيال، لأن الفقراء يحتاجون كلمات بعينها؛ فقد كان النص دائمًا هو هو، وليس لديهم خيار سوى أن يتوسلوا الرحمة. كان الطباخ يعرف بالغريزة كيف يبكي.
هذه الكلمات المألوفة سمحت للأولاد أن يتمادوا أكثر في دورهم، الذي منحهم إياه كهدية.
’من يريد أن يقتلك؟‘ قالوا للطباخ. ’نحن فقط نشعر بالجوع، هذا كل ما في الأمر. هنا، سوف يساعدك صاحبك
[8] سوف يساعدك. تفضل،‘ قالوا للقاضي، ’أنت تعرف كيف تفعلها كما ينبغي.‘ لم يتحرك القاضي، لذلك صوب الولد بندقيته إلى ماط ثانيةً.
أمسكها القاضي ووضعها خلفه.
’الصاحب، رقيق القلب للغاية. لابد أن تُظهر هذا الجانب الطيب لضيوفك، أيضًا. هيا، جهز السفرة.‘
وجد القاضي نفسه في المطبخ الذي لم يدخله أبدًا، ولا مرة. ماط تتهادى حول أصابع قدمه، ساي والطباخ كانا في حالة من الذعر بما لم يمكنهما من النظر، تجنبًا لنظراتهم.
خطر ببالهم أنهم ربما يموتون جميعًا مع القاضي في المطبخ؛ كان العالم مقلوبًا رأسًا على عقب ومن المحتمل جدًا أن يحدث أي شيء.
’لا شيء نأكله؟‘
’بسكويت فقط،‘ قالت ساي للمرة الثانية في ذلك اليوم.
’لاااه! أي صاحب أنت؟‘ وجه قائدهم سؤاله للقاضي. ’ليس هناك وجبة خفيفة! افعل شيئًا إذًا. أتظن أنه يمكن أن نواصل ببطون خاوية؟‘
قام الطباخ بقلي Pakoras، وهو ينتحب متوسلاً إياهم أن يتركوه حيًا، والزيت الحار يقرقع بقوةٍ، بدا صوت العنف هذا لازمة ملائمة للموقف.
بحث بارتباك عن مفرش سفرة في أحد الأدراج المكتظة بالستائر والملاءات والأسمال القديمة الصفراء. ساي، بيدين مرتعشتين، قامت بغلي الشاي في إناء وصفته، رغم أن فكرتها عن صنع الشاي بشكل صحيح، بهذه الطريقة، الطريقة الهندية، كانت معدومة. كانت تعرف فقط الطريقة الإنجليزية في عمل الشاي.
قام الأولاد بعمل مسح متفحص للمنزل. لاحظوا أن المنزل طاعن في العزلة. بضع قطع متهالكة من الأثاث مغطاة بالنمل الأبيض تقف منعزلة في الظلال مع بعض الكراسي المعدنية الرخيصة القابلة للطي. تغضنت أنوفهم من رائحة الفأر النتنة التي تنضح في مكان صغير، رغم أن السقف كان شاهقًا مثل سقف أحد المعالم الأثرية العامة والغرف كانت واسعة مثل بنايات الأثرياء القديمة، النوافذ موضوعة بحيث يمكن منها مشاهد مناظر الجليد. حدقوا في شهادة صادرة من جامعة أكسفورد كانت تقريبًا قد اختفت في البقع البنية الكثيفة التي تهيمن على الجدران التي امتصت الرطوبة وانتفخت للأمام وكأنها أشرعة. انغلق الباب للأبد على حجرة تخزين انهارت أرضيتها. كانت محتويات حجرة التخزين وما بدا وكأنه عدد كبير من علب التونة الفارغة، قد تكومت على طاولة بينج بونج مهشمة في المطبخ، وركن واحد فقط من المطبخ كان مُسْتَخْدمًا، طالما أنه كان مخصصًا في الأصل للمرؤوسين المستعبدين، وليس للخادم الوحيد المتبقي.
’المنزل يحتاج لإصلاحات كثيرة.‘ أوصى الأولاد.
’الشاي سايط جدًا،‘ قالوا بطريقة الحموات. ’والملح ليس كافيًا،‘ قالوا عن الـ pakoras. غمسوا بسكويت ماري آند ديلايت في الشاي، شفطوا السائل الساخن بصوتٍ صاخب. وجدوا صندوقين في غرف النوم مكتظين بالأرز، والعدس، والسكر، والشاي، والزيت، والثقاب، وصابون لوكس، وكريم بوندس كولد. أحدهم قال لساي مؤكدًا: ’الأشياء الضرورية للحركة فقط.‘ صرخة من آخر نبهت الباقين إلى خزانة مغلقة. ’أعطنا لمفتاح.‘
أحضر القاضي المفتاح من خلف أعداد مجلة الناشيونال جيوجرافيك التي، عندما كان شابًا، يتخيل نمطًا آخر من الحياة، اعتاد أن يتوقف لتجليدها بالجلد والنقش عليها بالذهب مع مرور السنوات.
فتحوا الخزانة ووجدوا زجاجات من الجراند مارينر، شَّرِيّ
[9] آمونتيلادو، وتاليسكر. بعض محتويات الزجاجات كانت قد تبخرت تمامًا وبعضها تحول إلى خل، لكن الأولاد وضعوها في الصندوق على أية حال.
’سجائر؟‘
لم يكن هناك سجائر. أغضبهم هذا، ورغم أنه لم يكن هناك ماء في الصهاريج، فقد تغوطوا في الحمامات وتركوها تنضح بالنتانة. ثم استعدوا للرحيل.
’قل، "Jai Gorgka"،‘ قالوا للقاضي. ’Gorkhaland for Gorkhas.‘
’ Jai Gorgka‘
’قل، "أنا مغفل."‘
’أنا مغفل.‘
’أعلى. لا أسمعك، huzoor. قلها بصوتٍ أعلى.‘
قالها بنفس الصوت الأجوف.
’Jai Gorgka.‘ قال الطباخ، و ’Gorkhaland for Gorkhas.‘ قالت ساي، رغم أنهم لم يطلبوا منها أن تقول شيئًا.
’أنا مغفل،‘ قال الطباخ.
بضحكات مكتومة، خرج الأولاد إلى الشرفة وللخارج في الضباب وهم يحملون الصندوقين. كُتب على أحد الصندوقين بحروف بيضاء على الصفيح الأسود: ’Mr. J. P. Patel, SS Strathnaver.‘ وعلى الآخر: ’Miss S. Mistery, St. Augustine's Convent.‘ ثم اختفوا بغتةً مثلما ظهروا.
ـــــــ
’لقد ذهبوا، لقد ذهبوا،‘ قالت ساي. حاولت ماط أن ترد رغم الذعر الذي كان مستقرًا لم يزل في عينيها، وحاولت أن تهز ذيلها، رغم أنه ظل ملفوفًا للداخل بين ساقيها. انفجر الطباخ في نواحٍ صاخب: ’Humara kya hog, hai hai, humara kya hoga,‘ ترك صوته يتطاير. ’Hia, hia,، ماذا سوف يحل بنا؟‘
’اخرس،‘ قال القاضي وفكر، هؤلاء الخدم الملاعين خُلِّقوا وتربوا على الصراخ.
هو نفسه جلس منتصبًا، ساكن السيماء كي يحجب تشوهه، قابضًا بإحكام على مسند الكرسي ليحد من رجفته العنيفة، ورغم أنه كان يدرك أنه يحاول إيقاف حركة كانت بداخله، فقد بدا وكأن العالم يرتج بقوةٍِ مدمرة كان يحاول أن ينتصب ضدها. على طاولة الطعام كان المفرش الذي بسطه، أبيض اللون عليه رسومات لعناقيد عنب لطختها بقعة حمراء كانت من أثر سكبه لكأس من خمر البورت البرتغالي أثناء محاولته قذف زوجته به لمضغها الطعام بطريقة أثارت تقززه منذ سنوات مضت.
’متباطئ جدًا،‘ وبخه الأولاد. ’أيها الناس! لا خجل.... لا يستطيعون القيام بشيء واحد بأنفسهم.‘
ساي والطباخ تحولا بنظرتهما من القاضي إلى مهانته، والآن حتى تجنبت نظراتهم مفرش السفرة وانطلقت إلى مسافة أطول عبر الغرفة، فلو أن غطاء المائدة معترف به، لما استطاع أن يقول كيف يكون عقابهما. انهيار رجل متغطرس يعتبر شيئًا في غاية الفزع. ربما يقتل من شهد إذلاله.
قام الطباخ بإغلاق الستائر؛ تجردها من الحماية بدا واضحًا من الزجاج، وبدت عُرضة للخطر في الغابة والليل، فالغابة والليل كانا يلقيان على الستائر بأرديتهما الخشنة القاتمة. رأت ماط خيالها قبل أن تغلق الستارة، وظنت خطاً أنه ابن آوى، فقفزت. ثم استدارت، ورأت ظلها على الجدار، وقفزت مرةً أخرى.
ـــــــ
في فبراير 1986، كانت ساي في السابعة عشر من عمرها، وكانت قصة حبها مع جيان مدرس الرياضيات لم تبلغ عامها الأول.
بعد ذلك عندما عبرت الصحف حواجز الطرق، قرءوا:
فرقة موسيقية اسمها Hell No سوف تقوم بإحياء حفل في الـ Hyatt International في بومباي.
في دلهي، معرض للتكنولوجيا يطرح بوتاجازات تعمل بروث الأبقار يحضره ممثلون من كل أنحاء العالم.
في كاليمبونج، بعيدًا في شمال شرقي الهيمالايا حيث يعيشون ـ القاضي المتقاعد، وطباخه، وساي، وماط ـ هناك تقرير عن استياء جديد في التلال، تمرد عام، رجال وبنادق. النيباليون الهنود هذه المرة، وقد تذمروا من جراء التعامل معهم كأقلية في مكان يمثلون فيه الأغلبية. إنهم يريدون بلدهم، أو على الأقل الاستقلال بدولتهم، حيث يمكنهم إدارة شئونهم. هنا، حيث الهند يغشاها البهوتان والسيكيم، والجيش يقوم ببعض التقدمات والملاحقات، ويقوم على صيانة دباباته كاكية اللون حال طمع الصينيين في الاستيلاء منطقة أكبر من التبت، خارطة كانت موصومة دائمًا بالفوضى. الصحف تبدو في حالة من الإذعان. قدر كبير من التحذير، والخداع، وقع تبادل للقصف؛ بين نيبال، وإنجلترا، والتبت، والهند، وسيكيم، وبوتان؛ دارچيلينغ سُرقَت من هنا، اقتُلعَت كاليمبونغ من هناك ـ رغم، آه، رغم السديم الجاثم كتنين، مُفَككًا وُمبددًا الحدود، وجاعلاً رسمها مثارًا للسخف والسخرية.
[1] الوَهْق: حبْلٌ في طرفه أنشوطة يُصْطَنَع لصيد الحيوان (المترجم)
[2] السَّبيدَج؛ الحَبَار: حيوان رِخويّ من رأسيّات الأرجل (المترجم).
[3] الضَّرَم: مادة ملتهبة تُضْرَم بها النار (المترجم).
[4] المَيْكة: مادة شبه زجاجيّة يمكن أن تُشطرَ إلى رُقاقات تُستعمل عازلاً كهربائياً (المترجم).
[5] المَعكرون: حلوىً من بياض البيض وسكّر ولوز (المترجم).
[6]المَسِيل أو الوَهْد؛: وادٍ صغير ضيّق شديد الانحدار (المترجم).
[7] لعبة بسيطة يلعبها الأطفال الصغار، وفيها يُخفي اللاعب وجهه، ثم يقول وهو يُظهره ثانيةً: ’بيكابوو!‘ أو ’بيب بو!‘ (المترجم).
[8] الصاحب Sahib: لقب بمعنى «سيّد» يخاطب به الهنود شخصاً أوروبيّا ذا مكانة اجتماعيّة أو منصب رسميّ (المترجم).
[9] الشَّرِيّ: خمر أسبانية الأصل.

الفصل الأول من رواية (ثمة ما أخبرك به) للكاتب حنيف قريشي



نزلت إلى مفترق الطرق
وجثوت على ركبتيّ
روبرت جونسون
القسم الأول
1
الأسرار هي عُمْلتي المتداولة: أتاجر فيها لأكسب قوتي. أسرار الرغبة، أسرار ما يسعى إليه الناس في واقع حياتهم، أسرار أكثر الأشياء التي يخشاها الناس. الأسرار التي تبرر صعوبة الحب، وتعَقُد الجنس، والعيش في ألم والموت القريب البعيد في آن. لماذا هذا الارتباط الوثيق بين المتعة والعقاب؟ كيف تتحدث أجسادنا؟ لماذا نُصيب ذواتنا بالمرض؟ لماذا تريد أن تفشل؟ لماذا المتعة من الثقل بحيث لا تُحتَمَل؟
غادرت امرأةٌ غرفة الكشف في عيادتي توًا. أخرى سوف تصل في غضون عشرين دقيقة. رتبت الوسائد على أريكة التحليل، واسترخيت في مقعدي بصمت غير معتاد، وبينما كنت أشرب الشاي، أتأمل الأفكار، والجُمَل والكلمات التي تضمنها حوارنا، وكذلك الروابط والفواصل بينها.
غالبًا كما أفعل في هذه الأيام، أبدأ التفكير في عملي، والمشاكل التي أعانيها فيه، وكيف أصبح هذا وسيلتي في كسب الرزق، ووظيفتي، ومتعتي. ومن المربك حتى بالنسبة لي أن عملي قد بدأ بجريمة قتل ـ واليوم هو ذكراها السنوية، لكن كيف تفعل هذا الشيء ـ تلاها رحيل حبي الأول، آجيتا، إلى الأبد.
أنا محلل نفسي. بعبارةٍ أخرى، قارئ للعقول والإشارات. أحيانًا ما أوصف بأنني منطوٍ، مداوٍ، مخبر سري، فاتح أبواب، منقب عن البذاءة، أو محض دجال ومشعوذ. مثل ميكانيكي سيارات يرقد على ظهره، أتعامل مع الأعماق أو ما وراء الحكاية: الخيالات، والأمنيات، والأكاذيب، والأحلام، والكوابيس ـ العالم القابع تحت العالم، الكلمات الحقيقية الخبيئة تحت تلك المزيفة. أتعامل بمنتهى الجدية مع المادة الأكثر غرابة؛ أنا أوغل في الأماكن التي لا تستطيع اللغة الذهاب إليها، أو حيث تتوقف اللغة ـ الـ ’لاموصوف‘ ـ وفي الصباح الباكر أيضًا.
حينما يمنح الناسُ الندمَ كلمات مغايرة، أدرك كيف أن رغبة الناس وآثامهم تزعجهم وترهبهم، الأحاجي التي تُحْدث بلهيبها ثقبًا في الذات وتشوه الجسم وتشله أيضًا، جراح التجربة، تنفتح ثانيةً لأجل صالح الروح وهي تتجدد.
إن الناس، على أعمق المستويات، أكثر جنونًا مما تريد عقولهم أن تتخيل. ستجد أنهم يخافون أن يُؤكلوا، وتستحثهم غرائزهم أن يلتهموا الآخرين. إنهم يتخيلون أيضًا، في السياق الطبيعي للأمور، أنهم سينفجرون، أو سينفجرون في دواخلهم، سيتبددون أو سيُنْتَهكون. حياتهم اليومية تخترقها مخاوف قوامها أن علاقات الحب الخاصة بهم تتضمن، ضِمْن الأشياء الأخرى، تبادل البول والغائط.
دائمًا، قبل أن يبدأ أي شيءٍ من هذا، أستمتع بالقيل والقال، وهي مؤهل جوهري للمهنة. الآن اعتدت أن أتلقى قدرًا وافرًا منه، يومًا بعد آخر وعامًا بعد آخر، يهمي داخلي نهرٌ من الأبخرة الآدمية غير المرئية. وكالعديد من الحداثيين، فرويد منح امتيازًا لفتات الصخور. يمكنك أن تطلق عليه أول فناني ’الموجود‘، من استخرج المعنى من ذلك الذي كان عادةً ما يُهمل ويُنبَذ. إنه لعمل بغيض، أن ترتبط بشدة مع الآدمي.
ثمة شيء آخر يحدث في حياتي الآن، تقريبًا غِشيان المحارم، ومن قد أمكنه التنبؤ به؟ أختي الكبرى، ميريام، وأعز أصدقائي، هنري، قد امتثلا لهوى تجاه بعضهما البعض. كل كياناتنا المستقلة يجري تبديلها، في الواقع تهتز، بواسطة هذه العلاقة البغيضة.
أنا أقول بغيضة لأن هناك أنواع مختلفة تمامًا من الناس، ممن لا يمكن أن تفكر فيهم على أنهم أزواج. هو مخرج مسرحي وسينمائي، مفكر صفيق عاطفته مختزلة في الكلام، والأفكار، والجديد. هي لا يمكن أن تكون أكثر قسوة، رغم أنها كانت تُعْتَبَر دائمًا ’ذكية‘. كان مدركان لبعضهما البعض على مدار سنوات؛ أحيانًا كانت تصطحبني لحضور عروضه.
أظن أن أختي قد كانت دائمًا في انتظار دعوتي لها بالخروج؛ وهذا قد استغرق مني وقتًا كي ألاحظه. رغم أن محاولة لإيجاد مبرر ـ في وقت تتفتت فيه ركبتيها ولا تستطيعان حمل وزنها المتزايد ـ كانت ملائمة لميريام كي تغادر المنزل، والأبناء والجيران. كانت دائمة فريسة للتأثر والسأم. تحب كل شيء عن المسرح باستثناء المسرحيات. كانت أفضل أوقاتها في المسرح هي الفواصل بين الفصول، عندما يكون هناك شراب، سجائر وهواء. أتفق معها، فقد شاهدت العديد من العروض المسرحية الرديئة، لكن بعضها كان يشهد فترات فاصلة كبيرة. هنري، نفسه، كان يغط في النوم حتمًا في خلال ربع الساعة من بداية أي عرض، تحديدًا لو كان مخرج العرض من أصدقائه، رأسه الفَرْويّة كانت تستند رقبتك وهو يقرقر برقة في أذنك مثل غدير ماء ملوث.
كانت ميريام تعرف أنه لن يأخذ وجهات نظرها على محمل الجد أبدًا، لكنها لم تكن تخاف منه أو من غروره. قيل عن هنري، وعن أعماله على وجه الخصوص، أنه يتحتم عليك أن تطري عليه حتى يحمر وجهك خجلاً، ثم تبدأ البناء من هذه النقطة. ميريام لم تكن من مادحيه؛ لم تكن ترى أن هناك حاجة لذلك. بالعكس كانت تحب أن تنخس هنري. ذات مرة، بعد إحدى مسرحيات إبسن أو موليير في الردهة، أو ربما كان أحد عروض الأوبرا، أعلنت أن تلك المسرحية كانت طويلة للغاية.
جميع من كانوا على مقربة منا كتموا أنفاسهم حتى قال عبر لحيته الرمادية، وبصوت عميق، ’للأسف، ذلك، بالضبط، هو الوقت الذي استغرقه العرض من البداية إلى النهاية.‘
كان رد ميريام، ’حسنًا، كان من الممكن اختصارهم معًا، هذا كل ما أردت قوله.‘
الآن هناك شيءٌ ينمو بينهما ـ هما من أصبحا أكثر اقترابًا من بعضهما عن ذي قبل.
هكذا حدث.
حين لا يكون هنري منشغلاً بالبروفات أو بالتدريس، يتمشى في حدود مكاني في أوقات الغداء، مثلما فعل قبل بضع شهور مضت، ويكون قد اتصل بماريا أولاً. ماريا، التي تتحرك ببطء، اللطيفة، المندهشة بأريحية، وهي في الواقع مكبوحة الشهوات ـ في الأصل منظفتي لكنها امرأة دَرَجْتُ على الاعتماد عليها ـ تُعِد الطعام في الطابق الأرضي، الذي أحب أن يكون جاهزًا بعد أن أكون قد انتهيت من آخر مريض في الفترة الصباحية.
دائمًا كنت أسعد برؤية هنري. ففي صحبته يمكنني الاسترخاء أو القيام بأشياء لا أهمية لها. بإمكانك أن تقول ما تحب، لكن كل زملائنا من المحللين يحاولون هذا لساعات طويلات. ربما أرى مريضي الأول في السادسة صباحًا. ولا أتوقف حتى الواحدة. بعد ذلك، أتناول الطعام، أسجل الملاحظات، أتمشى أو آخذ قيلولة، حتى يحين وقت الاستماع ثانيةً، وأستمر إلى بدايات الليل.
أستطيع أن أسمعه، إذ يدوي صوته من الطاولة التي بالخارج إلى جوار الباب الخلفي، قبل أن أكون في أي مكان بالقرب من المطبخ. مونولوجاته مصدر عذاب لماريا، التي، ولسوء حظها، تأخذ كل كلام الناس على محمل الجد.
’لو أنك كنت تفهمينني بالفعل، يا ماريا، وترين أن حياتي إذلال بشع، عدم.‘
’ليست هذا، بالتأكيد؟ مستر ريتشاردسون، رجلٌ مثلك ينبغي...‘
’أنا أقول لك بأنني أموت بالسرطان ومهنتي ليست سوى نكبة.‘
(ستأتي إلىّ فيما بعد وتهمس، بفزع، ’هل هو فعلاً سيموت بالسرطان؟‘
’لا، ليس ذلك ما أعرف.‘
’هل مهنته نكبة؟‘
’هناك أناس قليلون أكثر شهرة.‘
’لماذا يقول مثل هذه الأشياء؟ يالغرابة أطوارهم، هؤلاء الفنانين!‘)
ويواصل كلامه: ’ما، آخر عملين من إنتاجي، the Cosi، ورواية السيد ومارجريتا The Master and Margrita في نيويورك، أصاباني بالملل حد الموت. لقد حققا نجاحًا، لكنهما لم يكونا على درجة كافية من الصعوبة بالنسبة لي. ليس فيهما صراع، ليس فيهما مخاطرة الإبادة. أنا أحب ذلك!‘
’لا!‘
’ثم أحضر ابني إلى شقتي امرأة أجمل من هيلين ملكة طروادة! أنا مكروه في الكون كله ـ يبصق الغرباء في فمي المفتوح!‘
’أوه، لا، لا، لا!‘
’فقط انظري على الصحف. أنا مكروه أكثر من توني بلير، وهاك رجل يثير كراهية العالم.‘
’نعم، إنه بشع، الجميع يُقرون هذا، لكنك لم تُقدم على غزو أي إنسان، ولم تسمح بتعذيبهم في جوانتانامو. أنت محبوب!‘ وتأتي لحظة من التوقف, ’نعم، أنت ترى هذا، وتعرف هذا!‘
’لا أريد أن أحظى بالحب. أريد أن أكون مثارًا للرغبة. الحب أمان، لكن الرغبة غادرة وشريرة. "امنحيني منها بإسراف..." أبشع شيء، كلما قلت القدرة على الرغبة، كلما ازدادت على الحب، الشيء النقي. ليس ثم من أحد يفهمني سواك. هل تظنين أنه قد فات أوان أن أصبح شاذًا جنسيًا؟‘
’لا أعتقد أن هذا يقع في دائرة الاختيارات، يا مستر ريتشاردسون. لكن ينبغي عليك أن تستشير دكتور خان. سوف يكون هنا بعد قليل.‘
كانت الأبواب مفتوحة على حديقتي الصغيرة بأشجارها ومساحات العشب الأخضر فيها. كانت هناك أزهار على المنضدة بالخارج وكان هنري يجلس عليها، يتقدمه كرشه، كوسادة مريحة ترتاح عليها يداه، لو لم يكن يستعملهما في الهرش. على ركبتيه كانت تجلس، مارسيل، قطتي الرمادية، التي أهدتني ميريام إياها، قطة تريد أن تتشمم كل شيء، وكان لابد أن تُسحب دائمًا من الحجرة التي أرى فيها مرضايّ.
’لا أعتقد أن هناك أي كحول أبيض!‘ كان هنري يتحدث إلى نفسه، أو يتمتم بحرية، عبر ماريا، التي تصورت أن هذا الكلام جزءًا من حوار معها، بعد أن أتى بالفعل على نصف زجاجة من الخمر الجيد.
في المطبخ كنت أغسل يديّ. ’أريد أن أسكر،‘ استطعت أن أسمعه يقول. ’لقد أضعت عمري في الوقار. لقد بلغت السن التي تشعر النساء حولي فيها بالأمان! لذلك فالكحول يحسن حالتك المزاجية. يُحسن الحالة المزاجية للجميع.‘
’صحيح؟ لكنك أخبرتني، عندما دخلت، أنهم يريدونك في أوبرا باريس.‘
’سوف يأخذون أي شخص. ماريا، أنا مدرك أنك تحبين الثقافة أكثر مني بكثير. أنت حبيبة المقاعد الرخيصة، وكل صباح تمارسين القراءة في الباص. لكن الثقافة آيس كريم، فواصل للاستراحة بين فصول عرض مسرحي، متعهدين، نقاد، ونفس الملكات المتضجرات المتأنقات بإسراف اللائي يذهبن إلى كل شيء. هناك ثقافة، لا تعني شيئًا، وهناك الأرض الخراب. فقط غادري لندن أو قومي بتشغيل التليفزيون، وستجدينها. كائنات بشعة ومتعصبة وشبقة وغبية وأناس من طائفة بلير يقولون أنهم لا يفهمون الفن الحديث وملكنا في المستقبل، تشارلز الأحمق، يندفع صوب الماضي. في وقتٍ ما اعتقد أن الاثنان ربما يتوافقان معًا، العامة والصفوة. هل تصدقين ذلك؟ آه ماريا، كنت أعرف أن حياتي انتهت عندما قررت استخدام الألوان المائية ـ ‘
’على الأقل أنت لا تنظف الحمامات لتكسب قوت يومك. هيا، جرب هذه الطماطم. افتح فمك ولا تبصق.‘
’أوه، لذيذة. من أتيت بها؟‘
’من تيسكو. استخدم منديلا. لقد سالت كلها على لحيتك. أنت الآن جذاب للذباب من حولك!‘
كانت تطير الذباب بعيدًا عن. ’شكرًا لك، يا أمي،‘ قال. نظر لأعلى عندما جلست. ’جمال،‘ قال، ’كف عن الضحك وقل لي: هل قرأت السيمبوزيزم مؤخرًا؟‘
’اخرس، أيها الرجل الرديء، دع الدكتور يتناول طعامه،‘ قالت ماريا. ’إنه لم يضع حتى كسرة خبز واحدة في فمه بعد.‘ ظننت للحظة أنها سوف تضرب يده. ’لقد سمع الدكتور خان كلامًا كثيرًا صباح اليوم. إنه من العطف بحيث يسمح لهذا النوع من الناس أن يتحدثون على مسامعه، بينما ينبغي أن يُقيدوا بالحبال في مصحة الأمراض النفسية. يالقذارة بعضهم! عندما فتحت الباب، حتى الطبيعيين من الناس يحبون أن يطرحوا أسئلة عن الدكتور. أين يقضي إجازاته، أين ذهبت زوجته؟ لا يخرجون مني بشيء.‘
كنا نتناول الطعام. وكعادته، لم يستطع هنري أن يكف عن الكلام. ’"لقد سافرنا بجثة في عربتنا." يقول إبسن هنا إن الموتى ـ الموتى من الآباء، الموتى الأحياء، بالقطع ـ فعّالين بل وأكثر فعّالية وقوة من الأحياء.‘
غمغمت، ’نحن صنيع يد الآخرين.‘
’كيف تقتل أبًا ميتًا، إذًا؟ سيكون الإثم حينئذٍ بشع، أليس كذلك؟‘
’من المحتمل.‘
استأنف قائلاً: ’إن إبسن من طائفة الكتاب الواقعيين في هذه المسرحية. كيف ترمز إلى الأشباح؟ هل أنت بحاجة إلى ذلك؟‘ وكما كان غالبًا يفعل، مد هنري يده ليأكل من طبقي. ’هذا الجور الودود هو علامة بالتأكيد،‘ قال، وهو يرفع حبة فاصوليا، ’على رجل يستمتع بمشاركتك في زوجتك؟‘
’صحيح، مرحبًا.‘
لو أن مجرد الكلام يعتبر جماعًا لمن هم بكامل ثيابهم، فهنري قد كان، بالقطع، لديه وقتًا كافيًا؛ وهذه النزهات التاريخية كانت ممتعة وتدفع على الاسترخاء في وقت الغداء بالنسبة لي. عندما كانت ماريا تقوم بغسل الأطباق بعد أن رفعتها عن المائدة وكنت أنا وهنري نقلب صفحات الرياضة، أو ننظر من أزهار عباد الشمس المائلة بلطف والتي كان ابني رافي قد زرعها قبالة الحائط الخلفي لحديقتي الصغيرة، أصبح أقل انتشاء.
’أعرف أنك لا تعمل في وقت الغداء. لديك سلاطتك الخضراء. لديك كحول. نتحدث، أو على الأقل أنا أفعل ذلك. تناقش فقط مانشيستر يونايتد وعقول لاعبيه ومديريه، ثم تتمشى. ورغم ذلك، تسمعني.‘
’أنت تعرف أنني أكره العزلة. الصمت يصيبني بالجنون. لحسن الحظ أن ابني سام يعيش في مكاني منذ سنة تقريبًا. تصدعت علاقتنا بصورة مفاجئة عندما قرر أنه لا يستطيع أن يدفع الإيجار أو الفواتير. ذلك الطفل المزعج قد حصل على أعلى تعليم يمكن أن توفره له أموال أمه.
’كانت طفولته مخصصة للأجهزة الإليكترونية، وكما يمكن أن أكون قد أخبرتك، فهو يعمل جيدًا في إحدى القنوات التليفزيونية الحقيرة، التي تعمل لحساب شركة متخصصة في عرض التشوهات والجراحات التجميلية. ماذا يطلقون عليه، تليفزيون حوادث السيارات؟ هل تعرف ماذا قال في اليوم التالي؟ "أبي، ألا تعرف؟ زمن الفن الراقي قد انتهى."‘
’هل تصدقه؟‘ سألت.
’كم كانت قضمة كبيرة، مزقت منتصف وجودي. وكل ما آمنت به. كيف درج طفلاي على كراهية الثقافة الراقية؟ ليزا باحثة الفضيلة، تعيش على حمية الفاصوليا والماء المقطر. أنا متأكد حتى أن الأعضاء الجنسية اللعبة التي تستخدمها مصنوعة من مواد عضوية. ذات ليلة أخذتها على مضض منها إلى دار الأوبرا وبينما غرقنا نتنهد في مخمل المقاعد أصابها الدوار والهياج، لقد رأت العرض مفرطًا في التعقيد. راهنتُ على أن الوقت سيطول قبل أن تتمكن من استخدام كلمة "النخبة". اضطرت للمغادرة في فاصل الراحة. ابني الآخر يعشق سقط المتاع من الأعمال الفنية!‘
’هكذا؟‘
استأنف كلامه، ’على الأقل الولد بصحة جيدة، ونشيط، وليس غبيًا كما تعتقد. يأتي للعيش معي ويُحضر صديقته للإقامة معه، عندما تكون في لندن. لكن له صديقات أخريات. نذهب إلى المسرح، إلى مطعم، ويقيم علاقات صداقة مع فتيات أخريات أمامي. تعرف أنني كنت أفكر في إنتاج عمل، عن المستقبل البعيد غير المُتَخَيّل، لـ "دون جيوفاني". أرقد في السرير في الغرفة المجاورة له، واضعًا الهيدفون على أذنيّ، زاعقًا على الـ "دون" محاولاً أن أراه. سام يمارس الحب في معظم الليالي. في أول الليلة، في منتصفها، ومرة في الصباح على سبيل حسن الطالع. أسمعه، وأسترق السمع إلى ذلك. لا أستطيع أن أتجنب سماع الآهات الهائجة. لقد جربت موسيقى الحب دون فزع أو نوبات قذف مبتسرة وأنا شاب، وفي منتصف العمر في الحقيقة.
’ثم أرى الفتيات على الإفطار، يقارنّ الوجوه بالصرخات. واحدة، الأكثر اعتيادية بينهن، "كاتبة" لمجلات المودة، ذات بُف أمامي متجعد من الشعر الأشقر. ترتدي خُفًا وعباءة مبقعة باللون الأحمر تنفتح وأنا على وشك أن أخترق بيضتي. لأن قبلة واحدة من مثل هذا الخد تجعلك قادر على إغراق دير سانت مارك أو إحراق مائة فيرميير، لو كان هناك مائة منها. هذا،‘ قال، في النهاية، ’نوع من الجحيم، حتى بالنسبة لرجل بالغ مثلي، اعتاد أن يتلقى الضربات، وأن يواصل طريقه مثل جندي حقيقي للفنون.‘
’أفهم ذلك.‘
قال بدعائية كوميدية، وكأنه أنا، مع مريض، ’بما يُشعرك هذا تشعر؟‘
’إن هذا يجعلني أتخلص من الإحراج بالضحك.‘
’أنا أقرأ هذه الكتب المعاصرة لأعرف ماذا يحدث. لم أكن لأحلم بشرائها، الناشرون يرسلونها إليّ، وجميعها متخمة بأناس يثيرون الغرائز الجنسية. يا صديقي، هذه مُتَّع شاذة، تضم مخنسين، وكائنات من هذا القبيل، وأناس يبولون على بعضهم البعض أو يرتدون ملابس السخرة العسكرية، ويتظاهرون بأنهم من مقاتلي الصرب، وأسوأ. لن تصدق إلى ماذا وصل الناس هناك. لكن هل هم بالفعل؟ ليس من تتحدث عنهم.‘
’هم، هم بالفعل،‘ هأهأت.
’يا ربي. ما أريده،‘ قال، ’هو بعض الأفيون. لقد كنت أدخن السجائر لكنني أقلعت. لقد اختفت كل ملذاتي مع رذائلي. لا أستطيع النوم والأقراص أعيتني. أيمكنك التسجيل لي؟‘
’هنري، لست بحاجة لأن أصبح تاجرًا الآن. لدي وظيفة.‘
’أعرف، أعرف... لكن ـ‘
ابتسمت وقلت، ’هيا. لنتمشى.‘
مشينا معًا على امتداد الشارع، هو أطول مني بمقدار رأسه وأعرض بمقدار الثلث. كنت أنا مرتبًا مثل موظف، بشعر قصير شائك؛ عادةً ما كنت أرتدي قميصًا بياقة، وجاكت. كان يمشي متثاقلاً، بـ تي شيرت واسع جدًا: كان يبدو مترهلاً في كل مكان. ومع مواصلة المشي، كانت كسرات الخبز تسقط منه. يرتدي الحذاء بدون جوارب، لكن لم يكن يرتدي شرت، ليس اليوم. ذراعاه تحملان الكثير من الكتب، لروائيين بوسنيين، دفاتر ملاحظات لمخرجين مسرحيين بولنديين، شعراء أمريكان، وجرائد اشتراها من أفنيو المنتزه الهولندي ـ لي موند، كوريير دي لا سيرا، لا بيس ـ كان عائدًا إلى شقته المطلة على النهر.
مشى هنري متمايلاً حول بيوت الجيران وكأنه في قرية، حاملاً معه جوه الخاص ـ لقد تربى إحدى قرى سافولك ـ وباستمرار كان ينادي بعرض الشارع على شخصٍ ما أو آخر، وبين الحين والآخر، ينضم إليهم لتجاذب أطراف الحديث عن السياسة والفن. وحله لمسألة أن قليل من الناس في لندن تتحدث لغة إنجليزية يمكن فهمها الآن، كان يتخلص في أن يتعلم لغتهم. ’الطريقة الوحيدة للعيش في هذه المنطقة هو أن أتحدث البولندي،‘ أعلن مؤخرًا. عرف أيضًا البوسنية، والتشيكية والبرتغالية بصورة كافية كي يدخل إلى البارات والمحلات دون أن يضج، وكذلك ما يكفي من اللغات الأوربية الأخرى كي يشق طريقه دون أن يشعر بأنه مهمش في مدينته.
لقد عشت في نفس الصفحة من الألف إلى الياء طيلة حياتي في فترة النضج. في وقت الغداء كنت أحب أن أتمشى مرتين حول ساحات لعب التنس مثل العمال الآخرين. هذه المنطقة بين هاميرسميث وشيفردس باش، سمعت ذات مرة أنها وُصفت بأنها ’طريق ملتوية محاطة بالبؤس.‘ شخصٌ آخر اقترح توأمتها مع بوجوتا. هنري أطلق عليها ’مدينة شرق أوسطية عظيمة‘. الجو بالتأكيد كان دائم البرد هناك: في القرن السابع عشر، بعد عمليات الإعدام في تايبرن، بالقرب من ماربل آرك، ونُقِلت الجثث إلى شيفيردس باش جرين للعرض.
الآن تضم المنطقة مزيجًا من الأغنياء جدًا والفقراء جدًا، معظمهم من المهاجرين حديثًا من بولندا وأفريقيا الإسلامية. الأثرياء يعيشون في منازل من خمسة طوابق، بنايات بدت لي ضيقة، أضيق من بيوت الطرز الجورجية في شمال لندن. الفقراء يعيشون في نفس البنايات لكنها مقسمة إلى غرف منفصلات، ويضعون حليبهم طازجًا وأحذيتهم الرياضية على عتبات النوافذ.
المهاجرون القادمون حديثًا، حاملين ممتلكاتهم في حقائب بلاستيكية، غالبًا ما ينامون في الحدائق العامة؛ ليلاً، جنبًا إلى جنب مع الذئاب، ينقبون في مقالب النفايات عن طعام. الكحوليات والبندق يتم تسولها والشجار عليها في الشوارع باستمرار؛ تجار المخدرات ينتظرون على دراجاتهم على نواصي الشارع. دكاكين الأطعمة المعلبة الجديدة، والوكالات الحكومية والمطاعم قد بدأت تفتح أبوابها، وأيضًا محلات التجميل التي، التي اعتبرتها مؤشرًا إيجابيًا على ارتفاع أسعار السكن.
عندما واتتني الفرصة مرةٌ أخرى، أردت أن أتمشي في سوق شيفاردس باش، بما فيه من صفوف سيارات التأجير بسائقيها على امتداد طريق محطة جولدهاوك. امرأة محجبة من الشرق الأوسط كانت تتسوق في السوق، الذي يمكنك أن تشتري منه أثواب ضخمة من الأقمشة زاهية الألوان، وأحذية من جلد التمساح، ومجوهرات وملابس داخلية رخيصة وخشنة الملمس، ’أقراص سي دي ودي في دي مزيفة، ببغاوات وحقائب سفر، وكذلك صور مضيئة ثلاثية الأبعاد لمكة ويسوع. (ذات مرة، في مدينة مراكش القديمة، سُئلت ما إذا كنت قد رأيت شيئًا كهذا من قبل. لم أستطع إلا أن أرد بأنني قد قطعت هذه الطريق الطويلة فقط لأتذكر سوق شيفاردس باش.)
وبينما لا يمكن أن يشعر أحد بالسعادة في جولدهاوك روود، إلا أن آكسبريدج روود الذي يبعد عشر دقائق في تمام الاختلاف. على رأس السوق، أشتري فلافل وخطوة إلى داخل ذلك الشارع العريض غرب لندن حيث كانت المحلات كاريبية، وبولندية، وكشميرية وصومالية. على امتداد قسم الشرطة يوجد المسجد، حيث يمكنك أن ترى عبر أبوابه المفتوحة صفوف من الأحذية والمصلين. خلفه ملعب كرة القدم، الخاص بنادي كيو بي آر QPR (Queen Park Rangers)، إلى حيث كنا أحيانًا نذهب أنا ورافي لنُصاب بالإحباط. أحد المحلات أُمْطِر مؤخرًا بوابل من الطلقات النارية. ومنذ وقتٍ قريب اقترب ولدٌ من جوزفين على دراجته واختطف هاتفها المحمول من يدها. لكن باستثناء ذلك، كانت المنطقة هادئة رغم أنها صناعية، مع انشغال معظم الناس بالخطط والبيع. اندهشت لعدم وجود عنف أكثر، مع الوضع في الاعتبار أن أجزاء المنطقة كلها قابلة للاحتراق.
كانت رغبتي، التي لم تتحقق بصورة كبيرة، أن أعيش في رفاهية في أكثر مناطق المدينة فقرًا واختلاطا. دائمًا ما كانت التمشية هنا تسعدني. لم يكن هذا هو حي اليهود أو الأقلية بالمدينة؛ حي اليهود أو الأقلية في المدينة هو بيلجرافيا، نايتسبريدج وأجزاء من نوتينج هيل. هذه هي لندن المدينة العالمية.
قال هنري، قبل أن نفترق، ’جمال، تعرف أن أحد أسوأ الأشياء التي يمكن أن تحدث لممثل هو أن يطلع على خشبة المسرح ولا يكون هناك سوى الملل فقط، ولا إثارة. بشكلٍ ما يكون في أي مكانٍ آخر وما زال مشهد العاصفة في انتظاره كي يشرع فيه. الكلمات والحركات فارغة، وكيف لن يُفْهَم هذا؟ سأعترف بهذا لك، رغم صعوبة ذكره عليّ، إضافةً إلى شعوري بالخزي. لقد كان لديّ نصيب معقول من علاقات الليلة الواحدة. أليست أجساد الغرباء مفزعة! لكنني لم أنم مع امرأة بالمعنى المفهوم منذ خمس سنوات.‘
’هل هذا كل شيء؟ ستعود، شهيتك. أنت تعرف ذلك.‘
’لقد تأخر الوقت تمامًا. أليس صحيحًا أن الشخص الذي لا يستطيع الحب والجنس لا يستطيع الحياة؟ إنني أنضح فعلاً برائحة الموت.‘
’تلك النكهة أو الرائحة هي غداؤك. في الحقيقة، أشك أن شهيتك قد عادت فعلاً. وهذا ما يبرر حالة القلق الجامحة هذه.‘
’لو لم ترجع، فإلى اللقاء،‘ قال، وهو يسحب إصبعه بعرض حنجرته. ’هذا ليس تهديدًا، إنه وعد.‘
’سأرى ماذا أستطيع أن أفعل،‘ قلت ’في كلا الأمرين.‘
’أنت صديق حقيقي.‘
’اترك الحفلة عليّ.‘