الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

من رواية ميراث الخسران الفائزة بجائزة بوكر 2006


كيران ديساي
ميراثُ الخُسْران


خُيلاء العزلة
الكتابة عن النور تَنْقَضُ على الظُلمةِ، بهولٍ أكثر من الشهب.
المدينةُ الباهظةُ الغامضةُ تقهرُ الريف.
واثقًا من حياتي ومن موتي، أراقب الطموحين وأود لو أفهمهم.
يومهم شَرِهٌ مثل وَهْقٍٍ
[1] في الهواء.
ليلهم كأنه ارتياح من الغضب في الفولاذ، نَزِقٌ للانقضاض.
يتحدثون عن الآدمية.
آدميتي في الشعور بأننا جميعًا أصوات لنفس الفقر.
يتحدثون عن الوطن.
وطني في أنغام الجيتار، بضع لوحات، سيف قديم،
الصلاة المرئية لأيكة الصفصاف مع هبوط الليل.
يعيشني الزمنُ.
صامتًا أكثر من ظلي، أمر عبر العامة بشراهتهم المتغطرسة.
إنهم حتميون، غرباء، جديرون بالغد.
اسمي شخصٌ ما وأي شخص.
أمشي ببطءٍ، مثل واحدٍ أتى من أقاصي البعيد ولا يأمل وصولا.

خورخي لويس بورخيس


ميراثُ الخُسْران
1

طوال اليوم، كان للألوان ما للغسق من ألوان، سديمٌ يتحرك مثل مخلوق ماء عبر الجنبات الهائلة لجبال تستحوذ عليها ظلال المحيطات وأعماقها। أعلى الضباب كان كانتشينچونجا يظهر شحيحًا وكأنه منقارٌ بعيد تَشَكل من الثلج، يجمع خواتيم الضوء، ريشة من جليد تطايرت لأعلى من جراء العواصف أعلى قمته।
ساي، جالسةٌ في الشرفة، كانت تقرأ مقالةً عن السَّبيدَج
[2] العملاق في عدد قديم من مجلة الناشيونال جيوجرافيك National Geographic. بين الحين والآخر، كانت ترفع رأسها لتنظر على كانتشينچونجا، برجفةٍ، أدركت وميضه الفسفوري الساحر. القاضي جلس في الركن القصي مع رقعة شطرنجه، مباريًا نفسه. ماط، الكلبة، انحشرت تحت كرسيه حيث شعرت بالأمان، وأخذت تغط في نومها برفق. لمبة إنارةٍ عارية وحيدة تدلت من سلك أعلاه. كان الجو باردًا، لكنه كان لم يزل أكثر برودةً داخل المنزل، الظلمة، الصقيع تحتويهما حجارة الجدران لعدة أقدام في العمق.
هنا، في المؤخرة، داخل المطبخ الكهفي، كان الطباخ، يحاول أن يشعل الحطب الرطب. مس بأصابعه الضَّرَم
[3] في حذر، خشية أن يكون مجتمع العقارب حيًا، متحابًا، يتكاثر في المَحْرَقة. ذات مرة وجد أمًا، منتفخةً بالسم، على ظهرها أربعين وليدا.
أخيرًا، اضطرمت النيران في الحطب ووضع غلايته على قمتها، مائلةٌ للخلف، تطوقها قشرةٌ وكأنها شيء استخرجه بالحفر فريق من الأثريين، وانتظرها حتى تغلي. كانت الجدران مسفوعة ومُخْضَلّة، الثوم مُعَلقٌ من سيقان موحلة في روافد خشبية متفحمة، أيكات من السناج متغضنة لها شكل الخفاش تستعمر السقف. ألقى اللهب بفُسَيْفساء من البرتقالي الوضاء على وجه الطباخ، واحتر نصفه العلوي، لكن عصفة نار دنيئة عذبت ركبتيه المريضتين بالتهاب المفاصل.
لأعلى عبر المدخنة وللخارج، امتزج الدخان مع السديم الذي كان يستجمع السرعة، ويكتسح الأشياء بكثافة أكثر وأكثر جزئيًا ـ نصف التل، ثم النصف الآخر. الأشجار التي استحالت سيلويتات، لاحت للأمام، واحتُجِبَت ثانيةً. تدريجيًا أحل الضباب نفسه محل كل شيء، الملموسات بالظلال، ولا شيء بقيَّ إلا وتَشَكل به أو خُلَّق منه. تطايرت أنفاس ساي من فتحتيّ أنفها في تيارات متلاحقة، والصورة التخطيطية للسَّبيدَج العملاق، المُشَيَّد من قصاصات المعلومات، أحلام العلماء، غرقت تمامًا في الظُلمة.
أغلقت المجلة ومضت للخارج إلى الحديقة. كانت الغابة قديمةً وكثيفةً على حافة المرج؛ أيكة البامبو ترتفع ثلاثين قدمًا في غياهب العتمة؛ كانت الأشجار مثل عمالقة معلقة بالطحلب، متورمةً ومشوهة، تجسها جذور الأوركيد، وعندما فردت أصابعها للخارج، أستولى عليها الضباب برفقٍ داخل فمه. فكرت في جيان، مدرس الرياضيات، الذي كان ينبغي أن يصل قبل ساعةٍ مضت ومعه كتاب الجبر.
لكن الساعة كانت الرابعة والنصف بالفعل فالتمست له العذر بسبب السديم المتكاثف.
عندما نظرت للخلف، كان المنزل قد اختفى؛ عندما عادت تصعد الدرج ثانيةً إلى الشرفة، تلاشت الحديقة. كان القاضي قد سقط نائمًا والجاذبية تلعب دورها على العضلات المرتخية، تسحب خط فمه، وتَمُط وجنتيه، بينت لساي بالضبط صورة وجهه لو كان ميتا.
’أين الشاي؟‘ استيقظ وطلب منها. ’لقد تأخر،‘ قال القاضي، كان يقصد الطباخ والشاي، وليس جيان.
’سأحضره،‘ عرضت عليه.
كان الرمادي قد نفذ إلى الداخل، أيضًا، واستقر على أنية المائدة الفضية، متطفلاً على الأركان، محولاً المرآة التي في الممر إلى غيمة. في طريقها إلى المطبخ، لمحت ساي نفسها مكفهرة ومالت للأمام لتبصم بشفتيها على سطح المرآة، قبلة مكتملة الشكل من نجمة سينمائية. ’هالوو،‘ قالت، نصف لها، ونصف لشخصٍ ما آخر.
لم يحدث أبدًا أن رأى آدميٌ سَّبيدَج عملاق حيًا، ورغم أن لهم عيون كبيرة بحجم التفاح لاختراق ظلمة المحيطات، إلا أن حياتهم كانت عزلة بالغة العمق لدرجة أن الواحد منهم لا يلقى غيره من أفراد عشيرته. ساي استغرقتها كآبة الموقف.
هل يمكن أن يكون الشعور بالإنجاز بنفس عمق الشعور بالخسران؟ برومانسية قررت أن الحب لابد يقينًا أن يكمن في الفجوة بين الرغبة والتحقق، في الاحتياج، وليس في القناعة. كان الحب هو الألم، التوقع، التراجع، كل شيء حوله إلا العاطفة نفسها.
ـــــــ

وصل الماء إلى درجة الغليان ورفع الطباخ الغلاية وأفرغها في إبريق الشاي.
’فظيع،‘ قال. ’عظامي تؤلمني ببشاعة، مفاصلي تتمزق ـ ربما أكون ميتًا أيضًا, لو لم يكن لأجل بيچو...‘ بيچو هو ابنه المقيم في أمريكا. كان يعمل في دون بوللو ـ أم في البندورة الحارة؟ أو فرايد تشيكن علي بابا؟ لم يكن أبوه يتذكر أو يفهم أو ينطق الأسماء، وكثيرًا ما يُغَير بيچو وظيفته، وكأنه مطاردٌ باستمرار ـ ليس لديه أوراق.
’نعم، الجو غائم ومضبب جدًا،‘ قالت ساي. ’لا أظن أن المدرس سوف يأتي.‘ رتبت الأكواب، والسكريات، وإبريق الشاي، والحليب، والمصفاة، وبسكويت ماري آند ديلايت، بحيث توضع جميعها على الصينية.
’سآخذها،‘ عرضت.
’بحذر، بحذر،‘ قال مُعَنِفًا، وتبعها بإناء مزخرف السطح به حليب لماط. عندما رأت ساي تنزلق للأمام، والملاعق تُصدر موسيقى عصبية على فرخ القصدير الملفوف، رفعت ماط رأسها. ’وقت الشاي؟‘ قالت عيناها بينما اهتز ذيلها بحيوية.
’لماذا لا يوجد شيء نأكله؟‘ قال القاضي، سأل القاضي بغضب، وهو يرفع أنفه عن مستنقع البيادق في وسط رقعة الشطرنج.
ثم، نظر إلى السكر في الإبريق: حبيبات قذرة لامعة تشبه المَيْكة
[4]. البسكويت يشبه الكرتون وهناك بصمات أصابع قاتمة على بياض السكريات. لم يُقدم الشاي أبدًا كما ينبغي، لكنه طلب كيك أو كعكات مدورة، مَعكرون[5] أو بسكويت بالجبن على الأقل. شيءٌ حلو أو شيءٌ مالح. كان هذا تقليدًا ساخرًا، وأبطل مفهوم وقت الشاي.
’بسكويت فقط،‘ قالت ساي ردًا على انفعاله. ’لقد ذهب الخباز لحضور زفاف ابنته.‘
’لا أريد بسكويتًا.‘
تنهدت ساي.
’كيف تجاسر وذهب لحضور حفل زفاف؟ هل تصلح هذه الطريقة لإدارة عمل؟ الأحمق. لماذا لا يستطيع الطباخ أن يفعل شيئًا؟‘
’لم يتبق شيءٌ من الغاز، لا يوجد كيروسين.‘
’لماذا بحق الجحيم لم يفعلها على الحطب؟ كل هؤلاء الطهاة القدامى بإمكانهم صنع الكيك بإتقان بالغ بواسطة رص الفحم حول صندوق من القصدير. أتظنين أنهم كانوا يستخدمون البوتاجازات، ومواقد الكيروسين، من قبل؟ فقط هم في غاية الكسل الآن.‘
خرج الطباخ مسرعًا بما تبقى من بودنغ الشيكولاتة الساخنة على النار في مقلاة، وأكل القاضي ملاط الشيكولاتة الجميل وتدريجيًا اعترته قناعة بودنغ متذمرة.
أكلوا وشربوا، كل الوجود تلاشى في العدم، البوابة التي تؤدي إلى لا مكان، وشاهدوا الشاي ينثر حُليقات شريطية متكاثرة من البخار، شاهدوا أنفاسهم تلتحم بالسديم الذي يلتوي ببطء ويدور، يلتوي يدور.
ـــــــ
لم يلحظ أحد الأطفال وهم يزحفون فوق العشب، ولا حتى ماط، حتى أصبحوا فعليًا أعلى الدرج. لم يكن ذلك هو المهم، لأنه لم يكن هناك مزاليج لتمنعهم من الدخول ولم يكن هناك أحد على مقربة باستثناء العم بوتي على الجانب الآخر من مَسِيل
[6] چورا، الذي كان يستلقي ثملاً على الأرض في هذه الساعة، كان يرقد مستكينًا لكنه كان يشعر بدوار ـ ’لا تكترثي بي، يا حبيبتي،‘ هكذا كان يقول لساي دائمًا بعد كل نوبة سُكْر، وهو يفتح إحدى عينيه مثل بومة، ’سأرقد هنا فقط وآخذ قسطًا من الراحة ـ‘
لقد أتوا عبر الغابة سيرًا على الأقدام، يرتدون چواكت جلدية من سوق كاثاموندو السوداء، وبنلطونات كاكي، وعصابات رأس ـ الزي الشائع لأفراد حرب العصابات. أحد الأولاد كان يحمل بندقية.
فيما بعد وجهت التقارير الاتهام إلى الصين، وباكستان، ونيبال، ولكن في هذا الجزء من العالم، مثل أي جزء آخر، هناك ما يكفي من السلاح يغمر المكان لحركة مُفْقَرة لقوة مسلحة رثة الثياب. كانوا يبحثون عن أي شيء موجود ـ مناجل، فؤوس، سكاكين مطبخ، جواريف، أي نوع من الأسلحة النارية الصغيرة.
لقد أتوا للاستيلاء على بنادق الصيد الخاصة بالقاضي.
رغم مهمتهم وملابسهم، كانوا غير مقنعين. أكبرهم كان يبدو تحت العشرين، ومع أول عواء من ماط، صرخوا مثل مجموعة من التلميذات، وتراجعوا أسفل الدرج وانكمشوا مرتعدين خلف الشجيرات التي أخفاها الضباب. ’هل تعض، يا زعيم؟ يا إلهي!‘ ـ وارتجفوا تحت مظهرهم الخادع.
بدأت ماط تفعل ما كانت تفعله دائمًا عند رؤية الغرباء: أدارت عجيزتها التي كانت تهتز غاضبةً ونظرت للخلف حولها، بابتسامة، وارفةٍ بالخجل والتمني.
خرج القاضي إليها، كارهًا أن يراها تذل نفسها هكذا، فدفنت أنفها في ذراعه.
عاد الأولاد مرة أخرى إلى أعلى الدرج، في ارتباك، وأصبح القاضي واعيًا لحقيقة أن هذا الارتباك على درجة من الخطورة لأن الأطفال لو أظهروا ثقة غير متذبذبة، لكانوا أقل ميلاً لثني عضلاتهم.
قال الولد الذي كان يحمل بندقية شيئًا لم يفهمه القاضي.
’ليس نيباليًا؟‘ أزبد، شفتاه كانتا تنخران لتعلن عن رأيه في ذلك، لكنه واصل كلامه بالهندية. ’بنادق؟‘
’ليس لدينا بنادق هنا.‘
’لابد وأنك ضُلِلت.‘
’لا يهم كل هذا الهراء. أحضرهم.‘
’أنا آمرك،‘ قال القاضي، ’أن تغادر أملاكي فورًا.‘
’أحضر الأسلحة.‘
’سأطلب الشرطة.‘
كان هذا تهديدًا ساخرًا لأنه لم يكن هناك تليفون.
أطلقوا ضحكات سينمائية، ثم، وكأنهم في فيلم سينمائي أيضًا، صوب الولد ذا البندقية فوهتها على ماط. ’هيا، أحضرهم، وإلا فسوف نقتل الكلب أولاً وبعده أنت، ثم الطباخ، النساء في النهاية،‘ قال، وهو يوجه ابتسامته إلى ساي.
’سأحضرهم،‘ قالت في هلعٍ وقلبت صينية الشاي وهي تمضي.
جلس القاضي وماط في حجره. البنادق يرجع تاريخها إلى أيام عمله في الخدمة المدنية الهندية. مسدس باريل بامب A BSA خمس طلقات، وبندقية سبرنج فيلد 30. a، بندقية بماسورة مزدوجة، وهولاند & هولاند. لم تكن موضوعة في صندوق مغلق: كانت معروضة عند أقصى الردهة أعلى صف مترب من لوحات لبرك بط مطلية بالأخضر والبني.
’إخيه، كلها صدئة. لماذا لا تعتني بها؟‘ لكنهم كانوا مبتهجين وتفاقم تظاهرهم بالشجاعة. ’سوف ننضم إليك لتناول الشاي.‘
’الشاي؟‘ سألت ساي بفزع بليد.
’الشاي وما معه من مأكولات خفيفة. أهكذا تعاملون الضيوف؟ تعيدوننا إلى البرد دون أن نتناول ما يُشْعِرنا بالدفء.‘ تبادلوا النظرات، ونظروا إليها، ولأعلى، ولأسفل، وغمزوا بعيونهم.
أحست بأنثوية منفعلة خائفة.
بالطبع، كل الأولاد يألفون المشاهد السينمائية التي يشرب فيها البطل والبطل، وهما في ثيابهما الشتوية الدافئة، الشاي الذي يقدمه لهم خدم مهذبون على آنية فضية. ثم ينتشر الضباب في المكان، تمامًا كما كان يحدث في الواقع، وهما يرقصان ويغنيان، ويلعبان البيكابوو
[7] في منتجع سياحي جميل. تلك كانت السينما الكلاسيكية التي كانت موجودة في كيولو مانالي أو في كشمير، أيام ما قبل الإرهاب، قبل أن يأتي المسلحون ويخترقون الضباب، مما استوجب صناعة نوعٍ جديد من السينما.
كان الطباخ يختبئ تحت السفرة وسحبوه للخارج.
’آي أااا،‘ شبك كفيه في بعضهما البعض، متوسلاً إياهم، ’من فضلكم، أنا رجل مسكين، أرجوكم.‘ رفع يديه لأعلى وانكمش وكأنه تلقى قبضة مفاجئة.
’إنه لم يفعل شيئًا، اتركه،‘ قالت ساي، متقززةً من أن تراه مذلولاً، متقززةً حتى أن ترى أن الطريق الوحيد المفتوح أمامه هو أن يذل نفسه أكثر من ذلك.
’أرجوكم أنا أعيش فقط لأرى ابني، أرجوكم لا تقتلوني. أنا رجل مسكين اتركوني.‘
لقد شُحِذت كلماته عبر القرون، وتناقلتها الأجيال، لأن الفقراء يحتاجون كلمات بعينها؛ فقد كان النص دائمًا هو هو، وليس لديهم خيار سوى أن يتوسلوا الرحمة. كان الطباخ يعرف بالغريزة كيف يبكي.
هذه الكلمات المألوفة سمحت للأولاد أن يتمادوا أكثر في دورهم، الذي منحهم إياه كهدية.
’من يريد أن يقتلك؟‘ قالوا للطباخ. ’نحن فقط نشعر بالجوع، هذا كل ما في الأمر. هنا، سوف يساعدك صاحبك
[8] سوف يساعدك. تفضل،‘ قالوا للقاضي، ’أنت تعرف كيف تفعلها كما ينبغي.‘ لم يتحرك القاضي، لذلك صوب الولد بندقيته إلى ماط ثانيةً.
أمسكها القاضي ووضعها خلفه.
’الصاحب، رقيق القلب للغاية. لابد أن تُظهر هذا الجانب الطيب لضيوفك، أيضًا. هيا، جهز السفرة.‘
وجد القاضي نفسه في المطبخ الذي لم يدخله أبدًا، ولا مرة. ماط تتهادى حول أصابع قدمه، ساي والطباخ كانا في حالة من الذعر بما لم يمكنهما من النظر، تجنبًا لنظراتهم.
خطر ببالهم أنهم ربما يموتون جميعًا مع القاضي في المطبخ؛ كان العالم مقلوبًا رأسًا على عقب ومن المحتمل جدًا أن يحدث أي شيء.
’لا شيء نأكله؟‘
’بسكويت فقط،‘ قالت ساي للمرة الثانية في ذلك اليوم.
’لاااه! أي صاحب أنت؟‘ وجه قائدهم سؤاله للقاضي. ’ليس هناك وجبة خفيفة! افعل شيئًا إذًا. أتظن أنه يمكن أن نواصل ببطون خاوية؟‘
قام الطباخ بقلي Pakoras، وهو ينتحب متوسلاً إياهم أن يتركوه حيًا، والزيت الحار يقرقع بقوةٍ، بدا صوت العنف هذا لازمة ملائمة للموقف.
بحث بارتباك عن مفرش سفرة في أحد الأدراج المكتظة بالستائر والملاءات والأسمال القديمة الصفراء. ساي، بيدين مرتعشتين، قامت بغلي الشاي في إناء وصفته، رغم أن فكرتها عن صنع الشاي بشكل صحيح، بهذه الطريقة، الطريقة الهندية، كانت معدومة. كانت تعرف فقط الطريقة الإنجليزية في عمل الشاي.
قام الأولاد بعمل مسح متفحص للمنزل. لاحظوا أن المنزل طاعن في العزلة. بضع قطع متهالكة من الأثاث مغطاة بالنمل الأبيض تقف منعزلة في الظلال مع بعض الكراسي المعدنية الرخيصة القابلة للطي. تغضنت أنوفهم من رائحة الفأر النتنة التي تنضح في مكان صغير، رغم أن السقف كان شاهقًا مثل سقف أحد المعالم الأثرية العامة والغرف كانت واسعة مثل بنايات الأثرياء القديمة، النوافذ موضوعة بحيث يمكن منها مشاهد مناظر الجليد. حدقوا في شهادة صادرة من جامعة أكسفورد كانت تقريبًا قد اختفت في البقع البنية الكثيفة التي تهيمن على الجدران التي امتصت الرطوبة وانتفخت للأمام وكأنها أشرعة. انغلق الباب للأبد على حجرة تخزين انهارت أرضيتها. كانت محتويات حجرة التخزين وما بدا وكأنه عدد كبير من علب التونة الفارغة، قد تكومت على طاولة بينج بونج مهشمة في المطبخ، وركن واحد فقط من المطبخ كان مُسْتَخْدمًا، طالما أنه كان مخصصًا في الأصل للمرؤوسين المستعبدين، وليس للخادم الوحيد المتبقي.
’المنزل يحتاج لإصلاحات كثيرة.‘ أوصى الأولاد.
’الشاي سايط جدًا،‘ قالوا بطريقة الحموات. ’والملح ليس كافيًا،‘ قالوا عن الـ pakoras. غمسوا بسكويت ماري آند ديلايت في الشاي، شفطوا السائل الساخن بصوتٍ صاخب. وجدوا صندوقين في غرف النوم مكتظين بالأرز، والعدس، والسكر، والشاي، والزيت، والثقاب، وصابون لوكس، وكريم بوندس كولد. أحدهم قال لساي مؤكدًا: ’الأشياء الضرورية للحركة فقط.‘ صرخة من آخر نبهت الباقين إلى خزانة مغلقة. ’أعطنا لمفتاح.‘
أحضر القاضي المفتاح من خلف أعداد مجلة الناشيونال جيوجرافيك التي، عندما كان شابًا، يتخيل نمطًا آخر من الحياة، اعتاد أن يتوقف لتجليدها بالجلد والنقش عليها بالذهب مع مرور السنوات.
فتحوا الخزانة ووجدوا زجاجات من الجراند مارينر، شَّرِيّ
[9] آمونتيلادو، وتاليسكر. بعض محتويات الزجاجات كانت قد تبخرت تمامًا وبعضها تحول إلى خل، لكن الأولاد وضعوها في الصندوق على أية حال.
’سجائر؟‘
لم يكن هناك سجائر. أغضبهم هذا، ورغم أنه لم يكن هناك ماء في الصهاريج، فقد تغوطوا في الحمامات وتركوها تنضح بالنتانة. ثم استعدوا للرحيل.
’قل، "Jai Gorgka"،‘ قالوا للقاضي. ’Gorkhaland for Gorkhas.‘
’ Jai Gorgka‘
’قل، "أنا مغفل."‘
’أنا مغفل.‘
’أعلى. لا أسمعك، huzoor. قلها بصوتٍ أعلى.‘
قالها بنفس الصوت الأجوف.
’Jai Gorgka.‘ قال الطباخ، و ’Gorkhaland for Gorkhas.‘ قالت ساي، رغم أنهم لم يطلبوا منها أن تقول شيئًا.
’أنا مغفل،‘ قال الطباخ.
بضحكات مكتومة، خرج الأولاد إلى الشرفة وللخارج في الضباب وهم يحملون الصندوقين. كُتب على أحد الصندوقين بحروف بيضاء على الصفيح الأسود: ’Mr. J. P. Patel, SS Strathnaver.‘ وعلى الآخر: ’Miss S. Mistery, St. Augustine's Convent.‘ ثم اختفوا بغتةً مثلما ظهروا.
ـــــــ
’لقد ذهبوا، لقد ذهبوا،‘ قالت ساي. حاولت ماط أن ترد رغم الذعر الذي كان مستقرًا لم يزل في عينيها، وحاولت أن تهز ذيلها، رغم أنه ظل ملفوفًا للداخل بين ساقيها. انفجر الطباخ في نواحٍ صاخب: ’Humara kya hog, hai hai, humara kya hoga,‘ ترك صوته يتطاير. ’Hia, hia,، ماذا سوف يحل بنا؟‘
’اخرس،‘ قال القاضي وفكر، هؤلاء الخدم الملاعين خُلِّقوا وتربوا على الصراخ.
هو نفسه جلس منتصبًا، ساكن السيماء كي يحجب تشوهه، قابضًا بإحكام على مسند الكرسي ليحد من رجفته العنيفة، ورغم أنه كان يدرك أنه يحاول إيقاف حركة كانت بداخله، فقد بدا وكأن العالم يرتج بقوةٍِ مدمرة كان يحاول أن ينتصب ضدها. على طاولة الطعام كان المفرش الذي بسطه، أبيض اللون عليه رسومات لعناقيد عنب لطختها بقعة حمراء كانت من أثر سكبه لكأس من خمر البورت البرتغالي أثناء محاولته قذف زوجته به لمضغها الطعام بطريقة أثارت تقززه منذ سنوات مضت.
’متباطئ جدًا،‘ وبخه الأولاد. ’أيها الناس! لا خجل.... لا يستطيعون القيام بشيء واحد بأنفسهم.‘
ساي والطباخ تحولا بنظرتهما من القاضي إلى مهانته، والآن حتى تجنبت نظراتهم مفرش السفرة وانطلقت إلى مسافة أطول عبر الغرفة، فلو أن غطاء المائدة معترف به، لما استطاع أن يقول كيف يكون عقابهما. انهيار رجل متغطرس يعتبر شيئًا في غاية الفزع. ربما يقتل من شهد إذلاله.
قام الطباخ بإغلاق الستائر؛ تجردها من الحماية بدا واضحًا من الزجاج، وبدت عُرضة للخطر في الغابة والليل، فالغابة والليل كانا يلقيان على الستائر بأرديتهما الخشنة القاتمة. رأت ماط خيالها قبل أن تغلق الستارة، وظنت خطاً أنه ابن آوى، فقفزت. ثم استدارت، ورأت ظلها على الجدار، وقفزت مرةً أخرى.
ـــــــ
في فبراير 1986، كانت ساي في السابعة عشر من عمرها، وكانت قصة حبها مع جيان مدرس الرياضيات لم تبلغ عامها الأول.
بعد ذلك عندما عبرت الصحف حواجز الطرق، قرءوا:
فرقة موسيقية اسمها Hell No سوف تقوم بإحياء حفل في الـ Hyatt International في بومباي.
في دلهي، معرض للتكنولوجيا يطرح بوتاجازات تعمل بروث الأبقار يحضره ممثلون من كل أنحاء العالم.
في كاليمبونج، بعيدًا في شمال شرقي الهيمالايا حيث يعيشون ـ القاضي المتقاعد، وطباخه، وساي، وماط ـ هناك تقرير عن استياء جديد في التلال، تمرد عام، رجال وبنادق. النيباليون الهنود هذه المرة، وقد تذمروا من جراء التعامل معهم كأقلية في مكان يمثلون فيه الأغلبية. إنهم يريدون بلدهم، أو على الأقل الاستقلال بدولتهم، حيث يمكنهم إدارة شئونهم. هنا، حيث الهند يغشاها البهوتان والسيكيم، والجيش يقوم ببعض التقدمات والملاحقات، ويقوم على صيانة دباباته كاكية اللون حال طمع الصينيين في الاستيلاء منطقة أكبر من التبت، خارطة كانت موصومة دائمًا بالفوضى. الصحف تبدو في حالة من الإذعان. قدر كبير من التحذير، والخداع، وقع تبادل للقصف؛ بين نيبال، وإنجلترا، والتبت، والهند، وسيكيم، وبوتان؛ دارچيلينغ سُرقَت من هنا، اقتُلعَت كاليمبونغ من هناك ـ رغم، آه، رغم السديم الجاثم كتنين، مُفَككًا وُمبددًا الحدود، وجاعلاً رسمها مثارًا للسخف والسخرية.
[1] الوَهْق: حبْلٌ في طرفه أنشوطة يُصْطَنَع لصيد الحيوان (المترجم)
[2] السَّبيدَج؛ الحَبَار: حيوان رِخويّ من رأسيّات الأرجل (المترجم).
[3] الضَّرَم: مادة ملتهبة تُضْرَم بها النار (المترجم).
[4] المَيْكة: مادة شبه زجاجيّة يمكن أن تُشطرَ إلى رُقاقات تُستعمل عازلاً كهربائياً (المترجم).
[5] المَعكرون: حلوىً من بياض البيض وسكّر ولوز (المترجم).
[6]المَسِيل أو الوَهْد؛: وادٍ صغير ضيّق شديد الانحدار (المترجم).
[7] لعبة بسيطة يلعبها الأطفال الصغار، وفيها يُخفي اللاعب وجهه، ثم يقول وهو يُظهره ثانيةً: ’بيكابوو!‘ أو ’بيب بو!‘ (المترجم).
[8] الصاحب Sahib: لقب بمعنى «سيّد» يخاطب به الهنود شخصاً أوروبيّا ذا مكانة اجتماعيّة أو منصب رسميّ (المترجم).
[9] الشَّرِيّ: خمر أسبانية الأصل.

ليست هناك تعليقات: