الاثنين، 25 أغسطس 2008

بهاء جاهين يكتب عن (مدن فارهة للنسيان)


حين تتحول قصيدة النثر إلى سيمفونية
بهاء جاهين

الشعر فى معظم الاحيان أحادى كصوت الكمان، والشاعر الذى يجد رؤيته مركبة ومعقدة كثيراً ما يلجأ إلى المسرح، أو يعمد إلى استضافة بعض تقنيات المسرح - بالذات الحوار وتعدد الأصوات - فى قصيدته। لكن من النادر أن يلجأ شاعر إلى استلهام فن غير لغوى فى بناء قصيدته। وهذا ما فعله طاهر البربرى فى ديوانه «مدن فارهة للنسيان» (كتابات جديدة، 2001) حين حاول إخراج قصيدة طويلة مركبة الرؤية فى خمس حركات كالسيمفونية وأن يجعل كل حركة ذات مذاق موسيقى وموقف معنوى خاص يميزها عما قبلها أو بعدها.
ولكن قبل أن نرى معاً لماذا اختار طاهر البربرى الشكل السيمفونى لقصيدته الديوان وإلى أى حد جاءت الحركات الخمس مبررة لاختياره هذا ومبرزة وجاهته الفنية، دعونا أولاً نتعرف على الشاعر. طاهر البربرى شاعر ومترجم مصرى من مواليد شبين الكوم 1970. درس الأدب الانجليزى بكلية الآداب جامعة المنوفية، وعمل مدرساً للغة الانجليزية بمركز اللغات والترجمة بالأكاديمية المصرية للفنون، وله ديوان سبق الذى نحن بصدده، هو توقيعات على جسد المساء (1997).
وترجم إلى الانجليزية ديوان الشاعر رفعت سلام «إنها تومئ لى» (1994) وإلى العربية «أرض المساء» (مختارات من شعر د. هـ. لورانس) ورواية «إله الأشياء الصغيرة» (الفائزة بجائزة بوكر 1997).
إذن فهو شاعر مطلع على الادب العالمى، وبلغة كتابته فى كثير من الأحيان. بل وأعتقد من قراءتى لهذه القصيدة الديوان «مدن فارهة للنسيان» أن اختياره للشكل السيمفونى لم يكن اعتباطاً ولم يكن مقحماً على التجربة الشعرية بل يعكس محاكاة واعية لهذا الفن الموسيقى لا تتأتى إلا لكاتب عاشرته أذنه ووجدانه طويلاً. فنحن إذا تأملنا بداية القصيدة لوجدنا فيها النبرة العالية لمفتتح الحركة الاولى للسيمفونية خاصة عند الرومانسيين وعلى رأسهم بيتهوفن :
كأننى أبعث حياً
كأنما مدن فارهة للنسيان
على نهديك احتضنتنى
لكأننى أسمع افتتاحية سيمفونية بيتهوفن الخامسة، ولعلك إذا كنت من محبى ومعاشرى الموسيقى الكلاسيكية تسمعها معى الآن. ولكن بداية عالية النبرة لا تصلح فى ذاتها تبريراً لاختيار شكل موسيقى واستلهامه فى بناء قصيدة.
فهل جاء تقسيم القصيدة إلى خمس حركات مبتسراً ومفروضاً عليها أم استطاع الشاعر فى القصيدة ذاتها أن يبرره فنياً ؟ أو بعبارة أخرى، هل جاءت كل حركة استطراداً لما قبلها أم تميزت شكلاً ومضموناً كما تتميز كل حركة فى بناء السيمفونية عن باقى الحركات ؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال من خلال الديوان نفسه يحسن بنا أن نتأمل موضوع القصيدة. القصيدة باختصار تلخيص لتجربة حب. ولكنها ليست تجربة حب بسيطة بل مركبة : فهى ليست مجرد انجذاب لامرأة تطور إلى ارتباط عاطفى وجنسى بها، بل هى هروب من هزيمة العاشق أمام واقع يرفضه إلى احضان امرأة جعلها المرفأ والعقيدة والوطن و«مدناً فارهة للنسيان» :
هل قلت لكم :
إننى هرم
وإننى اصطدت هذه المرأة
بآخر شهقة لليسارى
قبيل القصف بقليل ؟
الحركة الثالثة - ص 53
وهى قصيدة حب مركبة أيضاً لأنها ليست تعبيراً أحادياً عن امتنان بالمعشوق أو سأمه أو اكتشاف لخدعة الحب بل هى سيرة كاملة لتجربة عاطفية غير خالصة لوجه الحب تخبطت بين كل حالات الفتنة والملال والشك وتأثرت طوال الوقت بواقع مخيف هرب منه الشاعر لكنه يطارده فى أحضان الحبيبة. فكيف صاغ الشاعر تقلبات هذا الحب وأحواله ومطاردة العالم الوحشى له فى الحركات الخمس لبنائه السيمفونى ؟
الحركة الأولى :
تعكس بداية القصيدة أمل الشاعر فى أن ينجح هروبه إلى أحضان المرأة التى اختارها محبوبة فى إنقاذه من صياغة الوجودى وهزيمته السياسية :
نحن على موعد
فافرحوا
لأنسخ بجوار جسدها، جسدى
لأستر عورتى بالود
وأفسد : هاتان العينان قاسيتان . لماذا ؟
الحبيبة رفرفت على طرف الوسادة. متى ؟
وكيف التقطتنى، بقبلة، من مخيم العناء
( ص - 10)
والشاعر يجعلنا نفهم منذ البداية أننا لسنا بصدد قصيدة حب بسيطة، بل ربما هى ليست قصيدة حب على الإطلاق؛ ربما كان ظاهرها الحب وباطنها البطش، ظاهرها امرأة وباطنها وطن :
ما أبرد الشارع
حين تدهمنى نظرة المخبر
المرابط فى معطفه الرث
ما أدفأ يدى
حين تنام تحت إبطيك ،
تنام !
( ص - 17)
والشاعر فى هذه الحركة الأولى يتنازعه الأمل والخوف : الأمل فى انتصار حبهما على واقع جهم متوحش شهد هزائم على كل المستويات، والخوف من أن يقتل الوحش الجميلة، أو يقتل الواقع الهاربين منه إلى عش من دفء القلب. فبينما يسجع الفلوت هامساً:
ليست شتوتنا الأخيرة
سننزح سوياً الماء الذى داهمنا فجراً
ليست شتوتنا الأخيرة
غداً سنفتح بابنا للأصدقاء
ستقدمين الشاى
بجلال يفضحه التثاؤب
سيغادرون حالاً
لأعود إلى خلوتك
وأنسل خلسة بين نقوش الجلباب
(ص 14)
بينما يهمس الفلوت بهذا، يعصف البيانو محتجاً فى نهاية الحركة الأولى :
يا الرومانسية التى ارتضت
رجلاً باهظ الجنون
أى خرافه
سأسربها، لأحيل الضجيج الذى يهاجسك
إلى موسيقى ؟
ثم أى رجل ستحاصرين
لو أن الرصاصة التى طاشت بيننا
سكنت عنقى ؟
(ص 27)
الحركة الثانية :
إذن هو حب تحت الرصاص. وإذن هو شعر درامى - وإن لم يلجأ للحوار - لأن صوت الشاعر فيه يتبدل بتبدل أحوال الخوف والرجاء والعشق والملال. وهذا فى حد ذاته مبرر لاختيار صيغة سيمفونية :
لأننا لسنا بإزاء ناى تحت جميزه أو كمان فى حجرة مغلقة، بل يهدر الشاعر أحياناً كالبيانو ويدق ساعات كالفلوت. ولكن كل هذا لا يكفى ليكون هذا الديوان / القصيدة سيمفونية بحق. إذ لابد كما اتفقنا أن تختلف كل حركة من حركات قصيدة السيمفونية الخمس عما سواها. فهل جاءت الحركة الثانية مختلفة عن التى سبقتها أم كانت مجرد استطراد لها ؟
فى الحركة الأولى كان الحب طازجاً، وكان الشعر يعكس استقبال الشاعر له فى فرحة يكاد يفسدها الخوف، وأمل قلق لا يستقر كعصفور على غصن شجرة تحت الرصاص. أما هنا فقد هدأ الحب بما يكفى للتأمل.. وللاستسلام أيضاً لليأس من جدوى محاولة بناء عش فى شجرة يداهمها الرصاص :
أتذكرين القبلة الأولى ؟
كنت أشتهى حنيناً أكبر
أبهذه السهولة
تسيل أيامنا
ما بين غرق فى شهوة القيظ
وبكاء يافع بالندم ؟
............لو كنا دراويش
لكان الهواء ممكناً
.............
لكننا كنا نتقافز
خشية الموت
عاريين حتى
من النخلة التى
إلى جوارها
ولدنا
)ص ص- 32 : 35) )
هذا التأمل لا يتأتى إلا حين يبرد الحب. والحركة الثانية برمتها هى الحركة المضادة للبندول فى ردة فعل لتوهج المشاعر فى الحركة الأولى التى كان حتى الخوف فيها متوهجاً كالحب. أما هنا فالـمُلك لليأس ولشعور طاغ باللا جدوى يصل قرب نهاية الحركة إلى قرار بالفراق :
لن نلتقى بعد
ليس لدى الغرفة ما نسرقه
ليس لدى أجسادنا ما نفضحه
ندبتان على رد فيك
وورم مراهق فى حلمتى
ص 41)
إنها الملالة الحتمية التى تعقب النشوة الاولى. لكنها هنا ملالة تسمح للعاشق الهارب من العالم لأحضان المرأة الوطن أن يرى بعينين بارزتين سخافة المحاولة :
هى ذى ملامحنا
بعد عشرين عاماً
تقف على الابواب
غريبة
مشدوهة
مخدوشة بالمخاوف
التى تدحرجت عليها
قبل عشرين عام
نهاية الحركة الثانية - ص 44
الحركة الثالثة :
حتى الآن استطاع الشاعر أن يحاكى بحق البناء السيمفونى فى قصيدته. فماذا أضافت الحركة الثالثة ؟ وهل نجحت هى أيضاً فى أن تأتى كتنويعه نغمية فى إطار وحدة الموضوع عادت القصيدة فى حركتها الثالثة إلى السخونة وفقدت نبرتها التأملية التى تميزت بها الحركة الثانية. ذلك أن القرار النظرى بحتمية الفراق لا يأتى عملاً عقلياً بارداً حين نحاوله فى الواقع الحى. لقد فشل الشاعر فى هجر محبوبته رغم السآمة، والنتيجة التى وصل إليها المنطق البارد. وأسقطت المحبوبة بدورها جنين العاشق، ربما لأنها قرأت فى عينيه أو فى وجه الواقع أنه طفل بلا مستقبل. رغم كل هذا، استمرت العلاقة - كما تحكى القصيدة - وعاد التوهج الشعورى ولكنه توهج الجرح المنكوء لا القلب المضئ :
السيمفونيون جميعاً
مبتهجون بالعزف
بالمدن الفارهة التى تتقافز
فوق الأوتار
ممسوسة بواهب الأسى
لا نسيان فيها
السميفونيون كل ليلة
ينكأون الجرح الذى
كل ليلة
أضمده بخبال الكحول
يذكروننى
بقيح التآريخ
وكناسة التفاصيل
بجسدين انهمكا عاماً كاملاً
فى صياغة أحبولة ..
ص ص - 58، 59)
الحركة الرابعة :
فى هذه الحركة القصيرة يعود الرضا عن المحبوبة، وهى عودة تبررها طبيعة الحب وتقلباته الشهيرة. ولكنه ليس رضا المفتون، بل رضا الإلف وقد ألف العش وارتاح إلى إلفه دون أن ينسى لحظة ما يحدث فى الخارج :
أنت فرحة جلبتها من الجبال
كى تشد من أزر الفتى المطرود
وتبتكر له فكاهة تعصمه من الجهامة
ص (65)
ولكن مع كل تقلبات الحب وانعكاس كل حال من أحواله على حركة من حركات القصيد السيمفونى، تظل الحقيقة واحدة وإن تعددت وتنوعت العواطف والحالات المزاجية التى تكتنفها. إنه حب مطارد ومجنون وبقاؤه يكاد يكون ضرباً من المحال :
أنا - بالكاد – أصدق
ما قاله جسدى
عن المجاعة؛
فكيف لى
أن أبيح مخيلتى
لامرأة تتفصدها
الفانتازيا ؟ ( ص - 71)
الحركة الخامسة :
تصور هذه الحركة الحب فى حال جديد هو حال البعد، حيث يزيد الاقتراب الوجدانى حضوراً والتصاقاً:
هنا فى الشمال البعيد أحبك أكثر
وأبصرك فى سطور الرسالة
قبلة خرساء
من شفتين تنتظران
مأوى فى بريدى
لكن البعد أيضاً يزيد من قدرة المرء على الإبصار، يجعله يرى بوضوح أكثر التجربة بكل أبعادها. والحركة الخامسة بهذا تشبه الثانية، ولكنها تفوقها فى القدرة على تلخيص التجربة:
لا شك كنا نهذى
وكنا رومانسيين
أنى لمحنا كوة للبوح
ظننا أن ما يتناثر منا
سيصير أثراً لخرافتين صغيرتين
أو اسمين لعرائس الأطفال
لم أك أعلم
أننا قنطرة لمن يركب الأطلسى إلينا
أما وجه الاختلاف الأهم بين الحركتين الثانية والخامسة أن الأخيرة وإن كانت موضوعية وليست باردة ولا يائسة.
إنها ترى بعيون صاحية أنه «لا مدن لنا، ولا نسيان» ولكنها مع ذلك تنتهى بقرار العاشقين معاً ألا يهجرا العش ولتأت الرياح بما تشاء؛ كما نرى فى المقطع الاخير من العمل:
- وقت من العصيان يصعد
- لا مانع
- تتأذى الذكريات
- لا شك
- نسأم؛ سنبادر بالقطيعة
لا محيص
- مجزرة على مقربة
- أحبك
- غرفتنا بلا سقف
- قِّبلنى
- ينظرنا الفضائيون
- أسترك بعورتى

- كيما نطهر هذا الخراب الدرامى بجماع أخير (ص ص - 84، 85)
إن طاهر البربرى يكتب قصيدة نثر من نوع خاص. فإحالاتها ليست حياة كل يوم كما يفعل معظم ممارسى هذا النوع، واللغة أكثر كلاسيكية من المعتاد فى قصيدة النثر دون السقوط فى التقليدية أو فى أية كليشيهات سواء كليشيهات التعبير الكلاسيكى أو تلك التى نجدها فى قصيدة النثر نفسها التى صنعت لنفسها بسرعة خارقة إحالاتها وصورها التقليدية (المقهى، الأصدقاء .. إلخ). وقد استطاع ببراعة فى هذا العمل (مدن فارهة للنسيان) أن يكتب قصيدة طويلة دون الوقوع فى الثرثرة وأن يكتبها نثراً دون الوقوع فى النثرية، واستعار لها قالباً مستمداً من الموسيقى الكلاسيكية دون أن يأتى هذا اختياراً فوقياً مقحماً على القصيدة، بل أفلح أن تأتى كل حركة من حركات قصيدته الخمس تنويعة نغمية فى إطار الوحدة كما نجد فى البناء السيمفونى للموسيقى الكلاسيكية، كما أفلح فى أن يصوغ رؤيته المركبة فى شعر متعدد الأصوات وإن كان الشاعر دائماً هو المتكلم، ولم يلجأ - إلا نادراً - للاختيار الشائع السهل وهو استخدام الحوار، بل وزع حالاته الفكرية والمزاجية النابعة من تجربة الحب وتقلباتها على آلات موسيقية مختلفة فكان أحياناً آلة نفخ وأحياناً وترية وتراوح بين الموسيقى الناعمة والعاصفة كما يقتضى الحال وكما هو جدير بسيمفونية.

هناك تعليقان (2):

سنتيمتر من الحنان يقول...

جميل جدا
الشعر، والكلام على وحول الشعر، وخاصة حين يكون المتكلم شاعر آخر مثل بهاء جاهين.
لماذا هجرت الشعر إلى الرواية؟
أسماء شهاب الدين

أسما عواد يقول...

طاهر
تحية طيبة
اكيد عرفت ان الثقافة الجديدة اتوقفت حاليا
ولا يهمك انا موش عارفة اعلق على الشعر ولا على كلام بهاء جاهين
اقولك على نكتة
فيك من يكتم السر
ولا هتفضحني على صفحات المدونات ؟
شوف يا سيدي انا قابلت بهاء جاهين مرة وكنا بنتكلم من غير ما أعرفه كان بيشكر في قصصي وبيقول انها مقفولة زي القصيدة لا فيها كلمة زيادة ولا كلمة ناقصة ...وطال الكلام وتعمق وبدا يقرأ بعض الأشعار وبعدين قلتله حضرتك بتفكرني بصلاح جاهين فيك روحه
فجأة قعد يضحك هو واللي موجودين
قالي تعرفي اني مبسوط قوي لأول مرة حد يقعد معايا ويكلمني وهو موش مصدر لي شخصية بابا في عنيه
طبعا انت عارف اني كنت عايشة برا مصر ومعرفش حاجة عنه واتكسفت جدا لكني في الآخر فرحت لما قالي ان الموقف ده اسعده
تحياتي لك ولأسماء المبدعة التي يحتوي قلبها على أمتار من الحنان

ياريت تلغي الحروف الانجليزية دي لأنها يتعطل التعليق