الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

نهاية الخيال (آرونداتي روي)



نهاية الخيال
آرونداتي روي¨
ترجمة: طاهر البربري
·
يمكن قراءة النص الإنجليزي للمقال على الرابط التالي:
http://www.ratical.org/ratville/nukes/endOfImagine.html
"الصحراء اهتزت،" أخبرتنا حكومة الهند، نحن (شعبها)।
"لقد استحال الجبل كله أبيضَ،" علقت حكومة باكستان।



بعد الظهر، استكانت الرياح صامتةً على بوخران Pokhran. عندما أشارت عقارب الساعة إلى الرابعة إلا ربع مساءً. أتمت آلة التوقيت تفجير المفجرات الثلاثة. على عمق حوالي 200 إلى 300 متر تحت الأرض، الحرارة التي تولدت عن التفجير كانت تُعادل مليون درجة مئوية، تمامًا مثل درجة الحرارة على سطح الشمس. وعلى الفور، بدأت صخور تزن حوالي ألف طن، جبل صغير من موجات الارتجاج المنبجسة من الأرض، في التصاعد من الانفجارات حاملةً كتل من الأرض بحجم ملعب كرة قدم بضعة أمتار لأعلى. قال أحد العلماء عند رؤية ما حدث، ’أستطيع الآن أن أصدق القصص التي تُحْكى عن لورد كريشنا وهو يرفع تلاً.‘ الهند اليوم India Today.
مايو/ آيار 1998. سَيُسَجَل في كتب التاريخ، على اعتبار، بالطبع، أن لدينا تاريخ ليُكْتَب فيه. على اعتبار، بالطبع، أن لدينا مستقبل. لا شيء جديد أو أصلي تبقى لدينا يمكن قوله عن الأسلحة النووية. ليس هناك شيء أكثر إذلالاً لكاتب روائي من أن يُعيد صياغة قضية قام آخرون، على مر السنين، بالتأصيل لها بشكل معرفي وعاطفي.
أنا مُعَدةٌ للإذلال. مُعَدة لإذلال نفسي بصورة مُنْحَطة، لأن الصمت، في هذه الظروف الراهنة، سوف لن يكون جديرًا بالدفاع عنه. الصمت. لذا، فمن منكم لديه الرغبة: لنأخذ أدوارنا، ونرتدي هذه الثياب المنبوذة لنقول هذه السطور والجمل البالية الرثة؛ في نفس المسرحية البالية الرثة. لكن ينبغي ألا ننسى أن الرهانات التي نلعب لأجلها من الضخامة بحال. إن ما يعترينا من شعور بالخزي والإعياء من الممكن أن يمثل خط النهاية بالنسبة لنا. نهاية أطفالنا وأحفادنا. نهاية كل شيء درجنا على محبته. لابد أن نبلغ أعماق ذواتنا لنكتشف القوة الدافعة على التفكير. على القتال.
ثانيةً، نحن متخلفون بصورة مثيرة للشفقة ـ ليس فقط على المستوى العلمي والتقني (ناهيك عن ادعاءاتنا الضحلة)، ولكن فيما هو أكثر من هذا، نحن متخلفون في قدرتنا على إدراك الطبيعة الفعلية للأسلحة النووية. إن فهمنا لهيئة الفزع عتيق بصورة تبعث على اليأس. ها نحن، جميعًا في الهند وباكستان، نتناقش حول النقاط الأكثر رهافة ورِقَة في السياسة، والسياسة الخارجية، نتصرف أمام العالم بأسره وكأن حكوماتنا ابتكرت توًا، قنبلة أكبر، نوعًا من القنابل اليدوية هائلة الحجم ستبيد بها العدو (بعضنا البعض) وتحمينا من كافة التهديدات. كم نحن في أمس الحاجة لتصديق هذا. يالروعتنا وتهذبنا، وحسن سلوكنا حين تحولنا إلى كائنات ساذجة سهلة الانقياد. لن يغفر لنا بقية الجنس البشري، لكن وقتئذ، ما ربما لن يدرك بقية ما تبقى من الجنس البشري ـ وفقًا لمن يُشكل الأفكار وقتئذٍ ـ إلى أي مدى نحن متعبون، تعساء، وحزانى. ربما لن تدرك هذه البقية حاجتنا الماسة لمعجزةٍ عاجلة. حنيننا العميق للسحر وللسحرة.
لو أن الحرب النووية مجرد نوع آخر من الحروب، لو أنها فقط هكذا. لو أنها كانت فقط عن الأشياء العادية ـ الأمم، والأقاليم والآلهة والتآريخ. لو أن من يرهبونها منّا كانوا بالفعل مجرد جبناء معدومي الأخلاق غير مستعدين للموت لقاء الدفاع عن معتقداتهم. لو أن الحرب النووية كانت فقط تلك الحرب التي تتقاتل فيها دول ضد أخرى، ويتقاتل فيها بشر ضد بشر. لكنها ليست هكذا. لو أن هناك حربًا نووية، فلن يكون عدونا هو الصين أو أمريكا ولا حتى أيهما ضد الآخر. عدونا سيكون الكرة الأرضية نفسها. العناصر ذاتها ـ السماء، والهواء والأرض، والرياح والماء ـ ستنقلب كلها، كلها ضدنا.
مدننا وغاباتنا، حقولنا وقُرَانا، ستضطرم فيها النيران لأيام. ستتحول الأنهار إلى سموم. سيستحيل الهواء نارا. والرياح سوف تحمل على عاتقها نشر اللهب. عندما يحترق كل ما هو قابل للاحتراق وتخمد النيران، سوف يرتفع الدخان ويحجب الشمس. الأرض ستغشاها العتمة. لن يكون هناك نهارا. فقط ليل لا نهائي. ماذا سنفعل حينئذ، نحن ممن سيظلون على قيد الحياة؟ من ستشوههم الحرائق ويصيبهم العماء والصلع والمرض على اختلاف أنواعه، أين سنذهب ونحن نحمل بين أيادينا جثث أطفالنا المُسَرْطَنَة؟ ماذا سوف نأكل؟ أي شيءٍ سوف نشرب؟ هل ثم من هواء كي نتنفس؟
إن رئيس مجموعة الصحة والبيئة والأمن في مركز بهابها للأبحاث الذرية في بومباي لديه خطة. أعلن أن الهند يمكن أن تدخل حربًا نووية. وكانت نصيحته هي أنه إذا كان هناك حرب نووية، فعلينا أن نحتاط بنفس إجراءات السلامة التي أوصى بها العلماء حال وقوع حوادث من جراء النباتات النووية. حيث سيكون الاستهلاك مقصورًا فقط على ما قد تم تخزينه من الماء والغذاء وتجنب استخدام الحليب. ويتحتم على من يعيشون في نطاقات الخطر الإقامة على الفور في الطوابق الأرضية، وفي السراديب إن أمكن."
ماذا تفعل مع هذه المستويات من الجنون؟ ماذا لو حُوصِرت في أحد الملاجئ، وأصيب الأطباء بنوبة خطرة من التشوش الهستيري؟ لنتجاهل هذا. إنه مجرد نوبة من العته الجامح من روائية، سيخبرونكم بأن القيامة مبالغة من نبي؛ وأن الأمر لن يبلغ هذا الحد. لن يكون هناك حرب. وأن الأسلحة النووية للسلام لا للحرب. "الردع" كلمة طنانة يرددها أولئك الذين يميلون إلى اعتبار أنفسهم صقورا. (طيور لطيفة، وجميلة، وأنيقة. متلصصة. ياللأسف، لن يكون هناك العديد منها حولنا بعد الحرب. الانقراض كلمة ينبغي علينا أن نحاول الاعتياد عليها.) الردع أطروحة قديمة، ابتُعِثَت، ويُعاد إنتاجها مضافًا إليها نكهة محلية. نظرية الردع وضعت تصديق منع الحرب الباردة من التحول إلى حرب عالمية ثالثة في مأزق. الحقيقة الوحيدة الثابتة حول الحرب العالمية الثالثة، إذا ما كان هناك، تُقِر بأنها ستندلع بعد الحرب العالمية الثانية. بعبارةٍ أخرى، لم يزل أمامنا متسع من الوقت. لا، نظرية الردع تنطوي على بعض العيوب الجوهرية.
العيب الأول يكمن في أنها تفترض فهمًا مُحَنَكًا لسيكولوجية عدوك. إنها تفترض أن ما يردعك (الخوف من الإبادة) هو نفسه ما يردعه. ماذا عن أولئك الذين لا يردعهم هذا؟ التركيبة النفسية لمن يقوم بالتفجير الانتحاري ـ الـ "سنأخذك معنا" مدرسة ـ أتلك فكرة غريبة؟ كيف مات راجييف غاندي؟
على أية حال، من هو المُشار إليه بضمير المُخَاطَب "أنت"، ومن هو المقصود بكلمة الـ "عدو"؟ كلاهما ليسا سوى حكومتيّن. الحكومات تتغير. تلبس أقنعة فوق أقنعة داخل أقنعة. طيلة الوقت تطرح وتُعيد اختراع نفسها. حكومتنا في الوقت الراهن، على سبيل المثال، ليس لديها ما يكفي من المقاعد كي تستمر فترة كاملة في موقعها. لكنها تطالبنا بالثقة فيها كي تقوم بالتفافات وخدع حزبية بالقنابل النووية حتى وهي تدور حول نفسها بحثًا عن موضع قدم لتزعم لنفسها أغلبية بسيطة في البرلمان.
العيب الثاني هو أن الردع يقوم على الخوف. لكن الخوف يقوم على المعرفة. على الفهم الحقيقي لمدى ونسبة الدمار الذي ستخلفه الحرب النووية. إنها ليست خاصية فطرية وملغزة مرتبطة بالقنابل النووية حتى ينشرون أفكار السلام أوتوماتيكيًا. إنها، على النقيض من ذلك، تتطلب عملاً مجابهًا لا نهائية، ولا مهادنة ممن لديهم الشجاعة على شجبهم وفضحهم، المسيرات، والبراهين، والأفلام، والازدراء ـ هذا ما قد تفادى، أو ربما أرجأ الحرب النووية. لا ولن يمكن للردع أن يكون فاعلاً في ظل مستويات الجهل والأمية التي تغشى بلدينا وكأنها سُتُر ثقيلة وكثيفة غير قابلة للاختراق.
القنبلة النووية الآن في متناول يد الهند وباكستان وكلا الدولتين تشعر بكامل الحق في امتلاكها. وعما قريب ستكون في متناول دول أخرى. إسرائيل، إيران، السعودية، النرويج، نيبال (أنا هنا أحاول أن أتسم بالانتقائية)، الدنمارك، ألمانيا، المكسيك، لبنان، سيريلانكا، بورما، البوسنة، سنغافورا، كوريا الشمالية، السويد، كوريا الجنوبية، فيتنام، كوبا، أفغانستان، أوزباكستان ـ ولما لا؟ كل دولة في العالم لها أسبابها الخاصة المحفزة على امتلاك القنبلة النووية. لكل إنسان كل حدود ومعتقدات. وعندما تكتظ مخازننا، بدلاً من الأغذية، بالقنابل المُشِعة في حين تعاني بطوننا من الخواء (ويصبح الردع حيوانًا متوحشًا)، سنقايض القنابل بالغذاء. وعندما تنزل التكنولوجيات النووية إلى الأسواق، عندما تدخل دائرة المنافسة وتنخفض الأسعار، فلن تتمكن الحكومات فحسب من امتلاك مستودعات أسلحة خاصة بها، بل والأفراد أيضًا ـ رجال الأعمال، السائحون، وربما حتى الكُتاب (من أمثالي) ممن أصبحوا أثرياء لسببٍ ما أو لآخر. سيصبح كوكبنا محفوفًا بالأسلحة الجميلة. سيكون هناك نظامٌ عالميٌ جديد. ديكتاتورية النخبة الثرية.
لكن لنتوقف عن التسليم بهذا رغم أنه حتمي. لأجل من ينبغي أن نفكر في هذا كله؟ من أحدثوا هذا. سادة العالم. السيدات والسادة، الولايات المتحدة الأمريكية! تعالوا هنا، أيها الناس، قفوا وانحنوا تبجيلاً. شكرًا على ما قدمتموه للعالم. شكرًا لما أحدثمتوه من اختلاف. شكرًا لأنكم أرشدتمونا إلى السبيل. شكرًا لتغييركم ناموس الحياة وغايتها.
من الآن فصاعدًا لن يكون خوفنا من الموت، بل من الحياة.
من أشد الحماقات خطورة الاعتقاد بأن الأسلحة النووية مميتة فقط حال استخدامها. وحقيقة الأمر أن وجودها المطلق، تمام حضورها في حيواتنا، سوف يُحدِث دمارًا أكبر مما تخيلنا. الأسلحة النووية تستعمر تفكيرنا. إنها المستعمر اللانهائي. أكثر بياضًا من أي رجلٍ أبيض رأيناه. جوهر البياض ذاته.
كل ما أستطيع قوله لكل رجل، وامرأة وطفل واعٍ هنا في الهند فقط على مسافة قليلة بعيدًا في باكستان، هناك: تعامل مع الأمر بشكل شخصي. أيًا كنت ـ هندو، مسلم، حضري، ريفي ـ لا يهم. أجمل شيء في القنبلة النووية أنها أكثر الأفكار التي اخترعها الإنسان تبنيًا للمساواة. في يوم القيامة، لن يُطلب منك إحضار أوراق اعتمادك. فالدمار لن يُفَرق أو ينتقي. القنبلة ليست في الفناء الخلفي لبيتك. إنها داخل جسدك. وجسدي. لن يكون لدي أي شخص أو أمة أو حكومة أو إله الحق في أن يقذفها هناك. نحن نشطون إشعاعيًا بالفعل، حتى قبل أن تبدأ الحرب. لذلك انهضوا وقولوا شيئًا. بغض النظر عما إذا كان قد قيل مسبقًا. تحدثوا نيابةً عن أنفسكم. تعاملوا مع الأمر بصورة شخصية جدًا.
أنا والقنبلة
في أوائل مايو/ آيار (قبل القنبلة)، غادرت وطني لمدة ثلاثة أسابيع. ظننت أنني سأعود، كانت أحمل في نفسي كل نوايا العودة. بالطبع، لم يكن سير الأمور وفقما خططت تمامًا. فبينما كنت بعيدة، قابلت واحدة من صديقاتي؛ كنت دائمًا أحبها لأسباب كثيرة من أهمها قدرتها على مزج عاطفة الحب العميقة بمستوى من الشفافية تقترب من الهمجية.
’لقد كنت أفكر فيك،‘ قالت، ’في إله الأشياء الصغيرة ـ ماذا فيها، ماذا فوقها، تحتها، حولها، أعلاها.‘ سقطت في مغبة الصمت لبرهةٍ. كنت قلقة ولم أكن أبدًا على يقين من رغبتي في سماع بقية ما كانت تتحدث بشأنه. لكنها، على أية حال، كانت متيقنة من أنها ستستأنف حديثها. ’في العام الماضي هذا ـ أقل من عام فعليًا ـ أصبت الكثير من كل شيء ـ الشهرة، المال، الجوائز، التملق، النقد، الإدانة، السخرية، الحب، الكراهية، الغضب، الحسد، الحفاوة ـ كل شيء. وفقًا لبعض وجهات النظر كانت قصة متكاملة. كانت باروكية
· في إفراطها. المشكلة أنها تنطوي، أو يمكن أن تنطوي على، نهاية واحدة مكتملة.‘ كانت تُثَبِت عينيها عليّ، وبهما ألق يشوبه لمعان منحدر متسائل. كانت تعرف أنني أعرف ما كانت مُقْدمة على التصريح به. كانت مجنونة. كانت ستقول أن لا شيء مما حدث لي في المستقبل يمكن أن يضاهي طنين هذا. وأن كل ما تبقى من حياتي سيكون غير مريح أو مُرضٍ بصورة غامضة. ولهذا، فأكثر النهايات اكتمالاً هي الموت. موتي.
خطرت الفكرة ببالي أيضًا. بالطبع خطرت. الحقيقة أن كل هذا، هذا التألق العالمي ـ هذه الأضواء في عينيّ، التصفيق، الأزهار، المصورين، الصحفيين الذين يتظاهرون بكل هذا الاهتمام العميق بحياتي (ومع هذا يجتهدون في معرفة حقيقة واحدة مباشرة)، رجال يلبسون بدلاً ويتملقونني، الحمامات البراقة ذات المناشف التي لا تُحصى في الفنادق ـ لا شيء من هذا من المرجح أن يحدث ثانيةً لي. هل سأفتقد هذا؟ هل درجت على احتياج هذا؟ هل كنت مدمنة شهرة؟ هل سأصاب بأعراض الانسحاب؟
كلما فكرت في الأمر، كلما وضح لي أنه لو أن الشهرة أصبحت حالتي الدائمة فإنها ستقتلني. ستضربني حتى الموت بطبائعها وعاداتها الجميلة. سأعترف أنني قد استمتعت بدقائقي الخمس منها بصورة هائلة، لكن لأنها كانت، في المقام الأول، خمس دقائق فقط. لأنني كنت أعرف (أو ظننت أنني كنت أعرف) أنه باستطاعتي العودة لبيتي وقتما أشعر بالسأم وأقهقه علي هذا. صرت كبيرة وغير قادرة على تحمل المسئولية. آكل المانجو في ضوء القمر. ربما أكتب كتابين فاشلين ـ أسوأ مبيعات ـ لأرى أثر هذا. لعام بأكمله طُفت جميع أنحاء العالم، سفينتي كانت ترسو دائمًا على أفكاري حول وطني والحياة التي سأعود إليها. وعلى النقيض من كل التساؤلات والتنبؤات حول اقتراب موعد هجرتي، ذلك كان البئر الذي غرقت فيه. كان ذلك عوني. قوتي.
أخبرت صديقتي أنه لا يوجد شيء اسمه قصة مكتملة. قلت إنه في حالتي كانت وجهة نظرها ليست سوى رؤية من الخارج للأمور، هذه الفرضية القائلة بأن مسار سعادة الإنسان، أو لنقل مُنْجَزه، قد تضاءل (والآن يجب أن يتدنى) لأنها قد أصابت "النجاح" بطريقة عَرَضِية. فكرة قائمة على اعتقاد وهمي بأن الثروة والشهرة هما العناصر الإلزامية لأحلام كل إنسان.
لقد عشت كثيرًا في نيويورك، قلت لها. هناك عوالم أخرى. أنواع أخرى من الأحلام. أحلام يكون الفشل فيها محتملاً. شريفًا. شيء جدير بالكفاح. عوالم لا يكون فيها الإدراك هو المقياس الوحيد للذكاء أو القيمة الإنسانية. هناك الكثير من المحاربين أعرفهم وأحبهم، أناس أكثر قيمة بكثير مني، يذهبون للحرب كل يوم، ويعرفون مُسْبَقًا أنهم سيفشلون. هم في واقع الأمر أقل "نجاحًا" بالمعنى الدارج جدًا للكلمة، لكنهم بلا شك أقل تحققًا. الحلم الوحيد الجدير بالحياة لأجله، قلت لها، هو الحلم بالعيش وأنت حية بالفعل والموت فقط وأنت ميتة. (بصيرة؟ ربما.)
"بما يعني بالضبط ماذا؟" (بحاجبين مقوسين، وشعور خفيف بالضيق.)
حاولت أن أوضح، لكنني لم أفلح تمامًا في هذه المهمة. أحيانًا ما أكون بحاجة للكتابة كي أفكر. لذلك كتبت لها على منديل ورق. وهذا ما كتبته لها: كي تحظيّن بالحب. كي لا تنسيّ وضاعتك أبدًا. كي لا تصبحي أبدًا معتادة على العنف الفادح والتباين الهمجي للحياة من حولك. كي تنعمي بالبهجة في أكثر الأماكن بعثًا على الحزن والكآبة. كي تقتفي أثر الجمال حتى في أخفى مكامنه. حتى لا تُبَسّطي ما هو معقد وتعقدين ما هو بسيط. كي تحترمين القوة. وفوق هذا كله، كي تتمكني من الملاحظة. لابد من محاولة الاستيعاب. لابد من عدم النظر بعيدًا. من عدم النسيان أبدًا، أبدا.
لقد عرفتها لسنوات عديدة، صديقتي هذه. هي أيضًا المهندسة معمارية.
كانت تبدو في حالة من الريبة، وإلى حدٍ ما لم تكن مقتنعة بكلامي الذي كتبته على المنديل الورق. أخبرتها بهذا إنشائيًا، تمامًا بالطريقة السردية المتأنقة المتناسقة للأشياء، ولأنها تحبني، فقد كان اهتزازها طربًا بـ"نجاحي" في غاية الحدة، لدرجة أنه ضاهى في حجمه فزعها "المسبق" من فكرة موتي. أدركت أنه ليس هناك شيء شخصي. مجرد شيء مُخَطَط. على أية حال، بعد أسبوعين من هذا الحوار، رجعت إلى الهند. إلى ما كنت أفكر/ فكرت فيه على أنه البيت/ الوطن. ثمة شيء كان قد مات لكنه ليس أنا. كان شيئًا أثمن بكثير جدًا. لقد كان عالمًا توجع لفترةٍ، وأخيرًا لفظ أنفاسه الأخيرة. وقد أقيمت له الآن طقوس حرق جثته. كان الهواء مطلق القبح، مثخنًا به، وثمة رائحة فاشيّة واضحة تعلق بالهواء.
يومًا بعد يوم، بدأت افتتاحيات الصحف، والإذاعة، والحوارات التليفزيونية، ومحطة الـ "إم تي في" التليفزيونية في برنامجها
¨For Heaven’s Sake، والناس الذين يمكن الثقة في فطرتهم السليمة ـ الكُتاب، والفنانين التشكيليين، والصحفيين ـ في المبادرة بالمقاومة. تسربت الرجفة إلى عظامي عندما أدركت من دروس الحياة اليومية، وبجلاء باعث على الألم، أن ما نقرأه في كتب التاريخ حقيقي. أن الفاشية، في واقع الأمر، متجذرة في الناس بنفس درجة تجذرها في الحكومات. وأنها تبدأ في البيت، في غرف الصالون. في الأسِرة.
"انفجار تقييم الذات Explosion of Self-Esteem"، "الطريق إلى النهوض ِRoad to Resurgence"، "لحظة مِنْ الفخرِ A Moment of Pride" ـ كانت تلك هي عناوين الصحف في الأيام التي تَلَت التجارب النووية. "لقد أثبتنا أن لم نعد خصيان بعد،" قال مستر ثاكيراي إلى أحد معاونيه الذي رد قائلاً (ومن الذي قال أننا كنا خصيانا؟ حقيقي، أن عددًا كبيرًا منّا نساء، لكن ذلك، قدر ما أعرف، لا يعني نفس الشيء.) كلما قرأت الصحف، غالبًا ما يصعب عليّ أن أقول متى يتحدث الناس عن الفياجرا (التي كانت تتنافس لتأخذ مكانها في الصفحات الأولى) ومتى يتحدثون عن القنبلة النووية ـ "إن لدينا قوتنا ونفوذنا أكثر تفوقًا." (كان هذا كلام وزير دفاعنا بعد أن أتمت باكستان من تجاربها النووية.)
(إنها لم تكن فقط تجارب نووية، بل كانت تجارب للتجييش القومي أيضًا،) كانوا يُعلوننا بهذا كثيرًا.
مرارًا وتكرارًا، كان هذا التصريح بمثابة طرقات المطرقة التي تدوي في الوطن. القنبلة هي الهند. الهند هي القنبلة. ليست الهند فقط، بل الهند الهندوسية. لذا، فلتحذر، فأي انتقاد لهذا لا يعتبر فقط مناوأة للقومية فحسب، بل مناوأة للهندوسية أيضًا. (بالطبع، القنبلة في باكستان إسلامية. وبخلاف هذا، نفس الخصائص والظواهر يتم تطبيقها من وجهة النظر السياسية.) وهذه واحدة من الفوائد المباغتة للقنبلة النووية. فليس بإمكان الحكومة استخدامها ـ القنبلة النووية ـ لتهديد العدو فحسب، ولكنها تستخدمها لتعلن الحرب على شعبها أيضًا. نحن Us.
عندما أخبرت أصدقائي بشروعي في كتابة هذا، حذروني. ’تقدمي،‘ قالوا، ’لكن كوني أولاً على يقين من أنك بعيدة عن أي خطر وبعيدة عن كل مواضع النقد. كوني واثقة من أن أوراقك مُرَتَبَة. وأنك قد دفعت الضرائب المستحقة عليك.‘
أوراقي مُرَتَبَة. ضرائبي مدفوعة. لكن كيف لأي شخص أن يؤمن وجوده في جوٍ كهذا وظروفٍ كهذه؟ كلنا عرضة للخطر. الحوادث تقع. هناك أمان في الإذعان فقط. وبينما كنت أكتب، افترستني الهواجس. في هذا البلد، كنت أعرف حقًا ماذا يعني للكاتب أن يشعر بأنه موضع حب (و، بدرجةٍ ما، موضع كراهية أيضًا).
في العام الماضي كنت واحدة من الشخصيات في موكب استعراضي تنظمه وسائل الإعلام تحت اسم موكب الفخر القومي لنهاية العام. وإمعانًا في التعذيب والخزي، كان بين الآخرين أحد صناع القنبلة النووية وإحدى ملكات جمال الهند العالميات. وبين الحين والآخر، يستوقفني شخص مبتهج في الشارع ويقول، ’لقد رفعت رأس الهند عاليًا‘ (مشيرًا إلى جائزة بوكر التي فزت بها، وليس إلى الكتاب الذي ألَفْتَه)، شعرت بقليل من عدم الارتياح. شعورٌ أفزعني وقتئذٍ ويصيبني الآن بالهلع، لأنني أدرك بأي سهولة يتضخم، هذا المد العاطفي، وينقلب عليّ. ربما قد آن الأوان لهذا. سوف أخرج من تحت أضواء الزينة هذه، وأعلن عما يجول بذهني.
هكذا: إذا ما اعترضت على امتلاك الهند لقنبلة نووية مزروعة في عقلي فهذا مناوئ للهندوسية والقومية، حينئذٍ أنسحب. وهنا أعلن نفسي مستقلة، جمهورية متحركة. أنا مواطنة جنسيتي كوكب الأرض. ليس لدي جغرافيا، ولا راية. أنا أنثى ولكن لست مناهضة للخصيان. ميولي السياسية بسيطة. أنا مستعدة للتوقيع على أية معاهدة لمنع انتشار الأسلحة النووية أو أية معاهدة لتحريم أية تجارب نووية. باب الهجرة مفتوح للجميع. بإمكانك مساعدتي في تصميم عَلَمِنا.
لقد مات عالمي. وأنا أكتب لرثائه.
لا شك أننا بصدد عالمٍ متصدع. عالم غير قادر على الحياة والنمو. عالم جريح تعتريه الندوب والتقرحات. عالم، أنا نفسي، انتقدته بلا هوادة وبقسوة، لكن فقط لأنني أحبه. الموت ليس جديرًا به. والتمزق أيضًا ليس جديرًا به. سامحني، فالنزوع إلى العاطفة ـ في هذه الحالة ـ ليس من رباطة الجأش في شيء. ـ لكن ماذا أفعل مع شعوري بالأسى والكآبة؟
لقد أحببته ـ ببساطة ـ لأنه منح الإنسانية اختيارا. كانت صخرة خارج البحر. شعاع ضوء عنيد أصر أن هناك طريقة مختلفة للحياة. الإمكانية الوظيفية. حق اختيار حقيقي. كل هذا قد تلاشى الآن. الطرق التي تُجْرى بها التجارب النووية الهندية، الإيفوريا التي نتلقى بها هذه التجارب، لا يمكن تبريرها أو الدفاع عنها. تعني، بالنسبة لي، أشياء مروعة. نهاية الخيال. نهاية فعلية للحرية، لأنه، ورغم كل هذا، الحرية ليست سوى. اختيار.
في الخامس عشر من أغسطس/ آب من العام الماضي احتفلنا بالذكرى الخمسين لاستقلال الهند. في العام القادم يمكننا أن نسجل الذكرى الأولى لعبوديتنا النووية.
لماذا فعلوا هذا؟
النفعية السياسية هي الإجابة الكلبيّة الواضحة، فيما عدا هذا فهي تطرح سؤالاً آخر أكثر محورية: لماذا ينبغي أن تكون الإجابة بالنفعية على المستوى السياسي؟ هناك ثلاثة أسباب رسمية مُعْلَنة: الصين، وباكستان، وفضح الرياء الغربي. بتحري القيمة الظاهرية ومناقشتها بدقة، نجد أنها ـ الأسباب الرسمية المعلنة ـ عبثية ومُربِكة. أنا لا أفترض للحظة أن هذه القضايا ليست حقيقية. فقط أقول بأنها ليست بالجديدة. الشيء الجديد فقط في الأفق القديم هو الحكومة الهندية. قال رئيس وزرائنا في خطابه المتعجرف للرئيس الأمريكي (لماذا أرهقت نفسك بالكتابة لو أنك كنت ستكتب بهذه الطريقة) إن قرار الهند بالمُضي قُدُمًا في تجاربها النووية كان ناتجًا عن "بيئة أمْنِية فاسدة." واستأنف كلامه مُذَكِرًا بحرب 1962 مع الصين وأنـ "نا عانينا من ثلاث موجات من العدوان خلال النصف قرن الأخير [بواسطة باكستان]. وخلال العقد الماضي كنا ضحية إرهاب وقتال متواصليّن من دعمها.... خاصة البنجاب والجامو وكشمير."
إن الحرب مع الصين تبلغ الآن من العمر ست وثلاثين سنة. ومن المؤكد أن الأمور تبدو وكأنها تحسنت قليلاً بيننا، إن لم يكن هناك حالة سرية وحية من التوتر والتأزم لا نعرف شيئًا عنها. الحرب الأخيرة مع باكستان كانت منذ سبع وعشرين عامًا مضت. ومما لا شك فيه أن كشمير لم يزل على حاله كإقليم ينطوي على مشاكل طاعنة في العمق، وباكستان، بلا ريب تنفخ في هذه النار لإشعالها. لكن في المقام الأول هل من المؤكد حتمية وجود نار للنفخ فيها؟ كشمير، ولذلك، آسام، تريبورا، ناجلاند ـ وفي الواقع كل أقاليم الشمال الشرقي ـ جارخاند، أوتراخاند وكل الصراعات التي لم تزل قيد التصعيد ـ كلها أعراض قلق وإزعاج أكثر عمقًا وحِدة. وجميعها غير قابلة، ولن تكون قابلة للحل بتوجيه القذائف النووية صوب باكستان. حتى قضية الصراع مع باكستان لا يمكن حلها بإشهار الأسلحة النووية في وجه باكستان. على الرغم من أننا دولتين منفصلتين، إلا أن نتقاسم نفس السموات والرياح والماء. حيث سيعتمد أي هبوط أي غبار ذري مُشِع في أي يوم على اتجاه الرياح والمطر. إن لاهور تبعد مسافة ثلاثين ميلاً عن آمريستار. لو ألقينا القنبلة على لاهور، فسوف تحترق البنجاب. لو فعلنا نفس الشيء مع كاراتشي ـ حينئذٍ ستحترق جوجارات وراجاستان، وربما بومباي أيضًا. إن أية حرب نووية مع باكستان سوف تكون حربًا ضدنا نحن.
أما بالنسبة للسبب الرسمي الثالث: فضح الرياء الغربي ـ إلى أي مدى نحن بحاجة لفضحه أكثر من ذلك؟ هل هناك آدمي محترم يحمل في عقله أية أوهام حول هذا الأمر؟ إنها شعوب ذات تاريخ مُشَبَع بدماء الآخرين. الكولونيالية، وسياسة التمييز العنصري، والرق، والتطهير العرقي، والحرب الجرثومية، والأسلحة الكيماوية ـ كل هذا فعليًا من اختراع هذه الدول. لقد سلبت الأمم، وأزالت الحضارات، وأبادت جماعات بشرية برمتها. إنها دول تقف على مسرح العالم في حالة من العراء السافر دون أي شعور بالارتباك، لأنها تعرف أن لديها أموالاً أكثر، وطعامًا أكثر وقنابل أكبر من التي تملكها أي دولة في العالم. هم يدركون قدرتهم على إبادتنا في يوم واحد من أيام عملهم. بشكل شخصي، يمكنني أن أقول أن هذا أقرب إلى الغطرسة منه إلى الرياء. إن لدينا طعامًا أقل، وأموالاً أقل وقنابل أصغر. لكن لدينا، أو كان لدينا، كل أنواع الثروات الأخرى. مُبْهجة ولا حصر لها. وما قد حققناه بها على النقيض تمامًا مما نظن. لقد وضعناها قيد الارتهان. وبالمعنى الأوسع للأشياء، لقد وافقنا الاشتراك في لعبتهم وبشروطهم؛ وبنفس طريقتهم في اللعب.
بوجه عام، أظن أنه من العدل أن أعلن أننا منافقون. نحن من هجرنا ما كان يُعْتَبَر موقفًا أخلاقًيا قابلاً للنقاش، على سبيل المثال: لدينا التكنولوجيا، بإمكاننا إنتاج القنبلة إذا ما أردنا، لكننا لن نفعل. نحن لا نؤمن بهم. نحن من أثاروا هذه الجلبة الجبانة كي يُسمح لنا بدخول نادي القوى العُظْمى. فطلب الهند للحصول على مكانة بين القوى العظمى يعتبر مثيرًا للسخرية تمامًا مثل أن نطلب اللعب في نهائيات كأس العالم ببساطة لمجرد أن عندنا كرة. بغض النظر عن كوننا مؤهلين أم لا، أو ما إذا نلعب الكرة كثيرًا وليس لدينا فريق.
نحن أمة قوامة بليون نسمة. ومن وجهة النظر التنموية فنحن في المرتبة رقم 138 من بين 175 دولة في قوائم الأمم المتحدة. أكثر من 400 مليونًا من سكان بلادنا يعانون الأمية ويعيشون في فقر مدقع، وأكثر من 600 مليون نسمة من شعبنا ليس لديهم مياه صالحة للشرب. القنبلة النووية لن تعمل على تحسين أيٍ من هذه الأوضاع.
نحن في الهند شعب قديم يتعلم العيش في دولة جديدة. القنبلة النووية وتدمير مسجد باربي في آيودهيا هما جزءًا من نفس العميلة السياسية. إنهما المحصلة البشعة لأمة تبحث عن نفسها. لجهود الهند من أجل تزييف هوية قومية. لتعريف معنى أن تكون هنديًا. كلما كانت الأمة معتورة بالفقر، كلما ازداد عدد الأميين وازداد الإفلاس الأخلاقي لقادتها، وازدادت فكرة ما تعنيه أو ينبغي أن تعنيه كلمة الهوية تخثرًا وفداحةً وخطورة.
إن الشباب الساخر المستهزئ الذي هدموا مسجد باربي هم أنفسهم الشباب الذين ظهرت صورهم في الصحف في اليوم التالي للتجارب النووية. كانوا في الشوارع يحتفلون بقنبلة الهند النووية وفي الوقت ذاته "يشجبون ويستنكرون الثقافة الغربية" بتفريغ صناديق البيبسي والكولا في مصارف المياه العامة. إنني أشعر بقليل من الحيرة تجاه سلوكهم ومنطقهم: البيبسي من قبيل الثقافة الغربية، لكن هل القنبلة النووية من التقاليد الهندية القديمة؟
نعم، لقد سمعت ـ القنبلة في الفيداس
¨. ربما يكون هذا صحيحًا، لكن إذا ما نظرت بحدةٍ أكثر، فسوف تجد الكوك في الفيداس أيضًا. وهذا أعظم ما في النصوص الدينية. بإمكانك أن تجد أي شيءٍ تريده فيها ـ بقدر وعيك بما تبحث عنه بين طياتها. لكن لنرجع إلى التسعينيات اللافيداوية©: إننا نعَصِفُ بقلب البياض، ونعانق أكثر إبداعات العلم الغربي وحشيةً وفظاعة ونسميه أحد إبداعاتنا. لكننا نعترض على موسيقاهم، وأطعمتهم، وملابسهم، وسينماتهم، وآدابهم. أليس هذا نفاقًا. هذه الازدواجية مثيرةٌ للضحك فعلاً. إن هذا مضحك بما يكفي لإضفاء البسمة على جمجمة.
نحن عائدون على متن السفينة القديمة. سفينة العرقية والهندية.
إذا ما كان هناك تأييد للعرقية/ حملة مناهضة للقومية، فكان لزامًا على الحكومة، ربما، أن تضع تاريخها في النصاب الصحيح، وكذا تصوب حقائقها. وإذا ما كانوا سيفعلون هذا، فينبغي أن يتم هذا بشكل لائق وصحيح. أولاً، السكان الأصليون لهذه الأرض لم يكونوا هندوسيين. فعلى الرغم من قدم الهندوسيين، فقد كان هناك كائنات بشرية على الأرض قبل ظهور الهندوسية. أليس لشعب الهند القبلي الكثير من الحق في المطالبة بوجوده الطبيعي على هذه الأرض أكثر من أي شخصٍ آخر، وكيف تتم معاملتهم من قبل الدولة وموظفيها؟ يُقْمَعُون، يُخْدَعون، تُسْلَب منهم أراضيهم، يُهَمَشون في كل مكان مثل فضلات السلع. ربما تكون نقطة البداية المُثْلى هي استعادتهم لكرامتهم المسلوبة منهم. ربما تستطيع الحكومة أن تمنح ضمانًا عامًا بعدم بناء سدود أكثر مثل الساردار والساروفار على النارمادا في المستقبل. لكن هذا بالطبع غير مقنع، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأن هذا يعتبر غير عملي. لأن أبناء القبائل ليس لهم أية أهمية. تاريخهم/ تآريخهم، عاداتهم، آلهتهم، كل هذه الأشياء ليست ضرورية في شيء. لابد أن يتعلموا التضحية بهذه الأشياء من أجل الصالح الأعلى للأمة (التي سلبتهم كل ما كانوا يملكون من قبل).
اتفقنا، إذًا لننحي هذه الفكرة جانبًا.
أما بخصوص الباقي، فبإمكاني أن أُصَنف قائمة من الأشياء العملية التي يتحتم منعها، والبنايات التي ينبغي تدميرها. إن هذا سوف يحتاج لبعض البحث، لكن يطفو على ذهني، هنا بضعة اقتراحات. بإمكان الحكومة أن تبدأ بمنع عدد من المكونات من مطبخنا: الفلفل الأحمر (المكسيك)، الطماطم (بيرو)، البطاطس (بوليفيا)، القهوة (المغرب)، السكر الأبيض، والقِرفَة (الصين) ـ من الممكن أن تتحول هذه الأشياء إلى وصفات. الشاي باللبن والسكر، مثلاً (بريطانيا). بطبيعة الحال، التدخين ليس محل سؤال. فالتبغ يأتي من أمريكا الشمالية. الكروكيه، واللغة الإنجليزية، والديمقراطية لابد من تحريمها جميعًا. نستبدل الكروكيه بألعاب مثل الكابادي أو الخوـ خو. لا أريد أن أبدأ في نوع من المرح الصاخب أو المشاغبة، لذلك فأنا مترددة في طرح بدائل للغة الإنجليزية (الإيطالية؟ لقد وجدت طريقها إلينا عبر طريق أكثر ودًا: الزواج، وليس الإمبريالية). لقد ناقشنا بالفعل (مسبقًا في هذا المقال) البديل المتنامي والمقبول بشكل واضح للديموقراطية. كل المستشفيات التي يمارس أو يُستخدم فيها الطب الغربي لابد وأن تُغْلَق. كل الصحف القومية لابد وأن يتوقف صدورها. وتُفَكَك طرق السكك الحديدية. وتُغْلَق المطارات. وماذا عن دُمْيَتِنا الجديدة ـ الهاتف المحمول؟ هل بإمكاننا العيش بدونه، أم هل ينبغي عليّ أن أقترح استثناءه؟ بإمكانهم تسجيله في عمود ونطلق عليه "من الكونيات" (السلع الأساسية فقط سوف تُدْرَج هنا. لا مكان للموسيقى، أو الفن، أو الأدب.) لست في حاجة لأن أقول إن إرسال أبنائك إلى الجامعة في الولايات المتحدة أو الطيران إلى هناك بنفسك لإجراء جراحة البروستاتا سوف يكون من الإساءات الملموسة.
ستكون قائمة طويلة، طويلة. سوف تتطلب سنوات من العمل والبحث. ليس بإمكاني استخدام جهاز الكمبيوتر لأنه ليس من ممتلكاتي الأصلية، أليس كذلك؟ لا أعني شيئًا من الاستظراف، فلو قمت بمجرد تفسير لهذا فأنا على طريق مختصر للجحيم. ليس هناك شيء اسمه الهند الأصلية أو الهند الحقيقية. ليس هناك لجنة لاهوتية لها حق التصديق على نسخة واحدة موثقة لما ينبغي أن تكون عليه الهند. ليس هناك دين واحد أو لغة واحدة أو طائفة اجتماعية أو دينية واحدة أو إقليم واحد أو شخص بعينه أو قصة أو كتاب يستطيع أن يدعي أنه هو الممثل الوحيد للهند. هناك، أو يمكن أن يكون هناك، تجليات للهند، طرق متعددة للنظر إليها ـ أمينة، غير أمينة، رائعة، عبثية، عصرية، تقليدية، ذكورية، نسوية. يمكن الجدل حولها، نقدها، مدحها، ازدرائها، لكن لا يمكن تحريمها أو تهشيمها. لا يكن طردها أو إبادتها.
التمترس ضد الماضي ليس الطريق لإبرائنا وشفائنا. لقد أصبح التاريخ واقعًا. لقد انتهى الأمر. كل ما يمكننا عمله هو تغيير مساره بتشجيع ما نحب بدلاً من تدمير ما نكره. لم يزل هناك، رغم ذلك، جمال في عالمنا المهشم والمستوحش هذا. جمالٌ كامنٌ قوي هائل. جمال متفرد يخصنا، وجمال تلقيناه بفضل من الآخرين، وتم تعزيزه وتجميله وابتكاره ليلاءم معنا. ينبغي أن نقبض عليه ونرعاه، ونحبه. إن صناعة القنابل لن يؤدي إلا إلى دمارنا. ليس السؤال حول ما كنا سنستخدمها أم لا. سوف تدمرنا هذه القنابل في الحالتين.
إن قنبلة الهند النووية هي الممارسة الأخيرة التي تبنتها الطبقة الحاكمة التي فشلت وأفلست مع شعبها. ومع أننا نكوم الأكاليل على علمائنا، ونعلق على صدورهم الكثير من الميداليات، فالحقيقة تقول إن صناعة القنبلة أسهل بكثير من تعليم 400 مليون نسمة.
وفقًا لاستطلاعات الرأي، فمن المتوقع أن نُسَلِّم بفكرة أن هناك إجماع قومي على القضية. رسمية الآن. الجميع يحبون القنبلة. (ولهذا فالقنبلة شيءٌ حسن).
هل من الممكن على الإنسان الذي لا يستطيع كتابة اسمه أن يستوعب حتى الحقائق الأولية والرئيسة الخاصة بطبيعة السلاح النووي؟ هل هناك من أخبره ـ هذا الإنسان ـ أن الحرب النووية لها علاقة مُطلَقة بأفكاره التي تلقاها عن الحرب؟ لا شيء له علاقة بالشرف، لا شيء له علاقة بالفخر؟ هل هناك من أزعج نفسه وشرح له شيئًا عن العواصف الحرارية، الغبار الذري المُشِع والشتاء النووي؟ هل هناك في لغته كلمات لوصف مصطلحات اليورانيوم المُخَصَب، الكتلة الحرجة والمواد القابلة للانشطار؟ أم أن لغته نفسها قد أصبحت مُطْلَقة؟ هل هو سجين في كبسولة الزمن، يشاهد العالم وهو يَمُر به، وهو غير قادرٍ على استيعابه أو الاتصال لأن لغته لا تضع في حسبانها أشكال الهلع التي بلغها الجنس البشري؟ ألا يبالي هذا الآدمي مطلقًا؟ هل سنعامله على أنه مجرد مصاب بنوع ما الاعتلال العقلي؟ لو انه طرح أي سؤال، نجهده بحبوب اليود، وحكايات عن لورد كريشنا وكيف رفع تلاً، أو كيف أن تدمير هانومان للانكا كان حتميًا لكي يحافظ على عِفة سيتا وسُمْعَة رام؟ نستخدم قصصه الجميلة كأسلحة ضده؟ هل سنطلق سراحه من كبسولته أثناء الانتخابات فقط، وبعد أن يُصَوِت، نهزه بأيدينا، ونتملقه بهراء عن حكمة رجل الشارع ونعيد ثانيةً إلى الكبسولة؟
بالطبع، أنا لا أتحدث عن رجل واحد بعينه. بل عن ملايين وملايين من الناس يعيشون في هذه البلد. تعرف، إنها بلادهم أيضًا. ولهم الحق في اتخاذ قرار بخصوص مصيرها وبقدر ما أعرف، ليس هناك من أخبرهم بأي شيء. والمأساة أنه ليس هناك من يستطيع، حتى لو أرادوا. حقيقةً، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى، ليس هناك لغة نفعل بها إخباره. هذا هو الذعر الحقيقي للهند. مدارات الأقوياء والضعفاء تتباعد وتتنافر عن بعضها البعض، لن تتقاطع، وستتقاسم العدم. فلا وجود للغة، ولا حتى وطن.
من بحق الجحيم قاد استطلاعات الرأي تلك؟ من بحق الجحيم يكون رئيس الوزراء هذا ليقرر من سيضغط بإصبعه على الزر النووي الذي سيُحيل كل شيء نحبه ـ أرضنا، سمواتنا، جبالنا، مروجنا، أنهارنا، مدننا وقُرَّانا ـ إلى رمادٍ في لحظة؟ من يكون هو بحق الجحيم ليؤكد لنا أنه لن تقع حوادث؟ كيف واتته المعرفة؟ لماذا ينبغي علينا أن نثق به؟ ماذا قدم لنا كي نثق به؟ ماذا قدم لنا أيهم لنمنحه ثقتنا؟
إن القنبلة النووية هي أكثر الأشياء التي اخترعها الإنسان شرًا على الإطلاق، هي العدو الأكبر للديمقراطية والإنسانية والقومية. لو كنتم مؤمنين، تذكروا أن هذه القنبلة هي تحدي الإنسان لله. إنها كلمة غاية في البساطة: لدينا القوة لتدمير كل ما قد خلقت. لو كنتم (مؤمنين)، فلتنظروا إلى الأمور بهذه الطريقة. عالمنا هذا الذي يبلغ من العمر ستة آلاف وأربعمائة مليون سنة. يمكن أن ينتهي ذات ظهيرة.
المقال مترجم عن الإنجليزية (لغته الأصلية) من مجلتي Frontline and Outlook الهنديتين عدد 27 يوليو/ تموز. Copyright Ó1996, The Nation Company, L.P.
¨ كاتبة وروائية هندية فازت بجائزة بوكر العام 1997، عن روايتها [إله الأشياء الصغيرة The God of Small Things]، وصدرت ترجمتها العربية عن دار ميريت للنشر بالقاهرة العام 2003 ترجمة: طاهر البربري.
· كاتب ومترجم مصري.
· باروكي: خاص أو متعلق أو متسم بأسلوب في التعبير الفني ساد في القرن السابع عشر وهو يتميز بدقة الزخرفة وغرابتها وبالتعقيد والصور الغريبة الغامضة وخاصةً في الأدب (المترجم).
¨ لأجل السماء (المترجم).
¨ كتب الهندوس الدينية الأربعة (المترجم).
©الفيداوي: نسبةً إلى الفيدا (كتب الهندوس الدينية الأربعة)، والفيدانتا Vedanta نظام فلسفي ديني مبني على الفيدا (المترجم).

ليست هناك تعليقات: