الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

قراءة في رواية (سحر أسود) لحمدي الجزار


السارد وتنوع الرؤى في رواية سحر أسود[1]
طاهر البربري
[2]


[الآلة التي أعرفها كما أعرف لون أظافري وسوء طويتي، الكاميرا المخبولة، الوحش، تقترب وتفضح، تبتعد وتكشف، تغوص في التفاصيل، تُبَصّر الأعمى، تصدم وتذل، تُجَمِلّ وتكذب وتعري الجميع من الثياب والنيات، تصطنع وتداري، تجمع الأضداد، والمتناقضات مزهوة بوجودها وحده، تسلبني الإرادة والاختيار، متهورة وهمجية، بربرية من زمن الأصنام الجديدة.] رواية سحر أسود ص. 162
لأن الرواية فن مخلص جدًا لكاتبها؛ للعالم الذي تطرحه وتحكي عنه؛ فالرواية ليست فنًا طيعًا أو سهلاً ولن تصبح هكذا أبدًا। ربما لأنها تجاوزت دورها كفن واستهدفت الحياة: الرواية كتاب الحياة؛ هامشها، ومتنها. لقد تجاوزت الرواية، في الآونة الأخيرة وجودها الفني لتتخذ مكانة أكثر سموًا، وقوة. مكانة جعلتها قابلة لأن تُنْعَت بأنها مثل كتاب الحياة. فهي ـ أعني الراوية ـ طارحة الأسئلة؛ والمُنَقِبة عن التفاصيل، وكاشفة الخفايا، وراصدة التحولات، ومُفْشية الأسرار بالغة القسوة عن الآدمي في زمكانيته/ زمكانياته المتعددة.



إن من الصعب بمكان محاولة كتابة ما يشبه القراءة النقدية حول رواية تفعل امتصاص قارئها بنهم، وشراهة مثل رواية سحر أسود للكاتب حمدي الجزار. ماذا بإمكان أي ناقد أو كاتب، أو حتى متلقي نموذجي للأدب أن يكتب عن الكتابة النابضة بالحياة الراهنة/ بالآني/ المؤلم/ الطائش/ الشجي/ الصاخب/ القابض/ الحلو/ اللاهث الذي تتجلى ملامح وجوده في قدرته على امتصاص كل المتناقضات، والتجذير لعالم مشحون ببدايات لا نهايات لها، أو، بالأساس، لا يخطط لأية نهايات. قديمًا كان الفن يرفض محاكاة العالم كما هو، ويُعلي من قيمة الفنان الذي يحاول محاكاة العالم كما ينبغي أن يكون أو كما لا ينبغي أن يكون. الآن أصبحت قدرة الفنان على محاكاة ما يتبلور في حدقتيه من العالم كافيًا لطرح أسئلة غاية في التعقيد عن هذا الآني وتحولاته اللاهثة والمباغتة في آن. ذلك لأن الحياة بواقعها باتت أكثر من أسطورية في مشهديتها وفي ممارسة الآدمي لوجوده فيها.
إن رواية سحرٌ أسود تحتفي بواقعية وارفة بكل عناصر العادي والمشترك. وفي لقطة جامعة واسعة تتسع لتمنح مشهدية شاسعة لشرائح آدمية تنصهر ـ رغم تباينها وتنافرها ـ في سياق مجتمعي كبير؛ تنفصم عرى العلاقة بين تفاصيله لكنها تقوى حين رصد مأزقه العام. ورغم كل هذه الواقعية التي تنطلق منها ولأجلها هذه الرواية إلا أنها تظل رواية مستعصية على التصنيف؛ وترفض الامتثال لرغباتنا النرجسية التي تحاول دومًا أن تنمذجها، وفقًا لقدراتنا المعرفية، ضاقت أم اتسعت. رواية سحر أسود من هذا النوع العصي الذي يرفض الانتماء لنموذج روائي بعينه. وبعبارةٍ أخرى، هي رواية تحمل ملامح الكثير من النماذج الروائية الأربعة التي قال بها باختين: رواية السفر (الرحلة)، رواية الاختبار، رواية البيوجرافيا (السيرة الذاتية)، ورواية التعلم.
إنها تقتفي أثر شخصياتها في رحلاتهم التي تبدأ من معرفة العالم والولع به إلى ناصية السأم واللانهاية واللاحركة إلى الوعي بالشرك الحياتي/ الوجودي حين تتكشف أمام وعيهم قسمات الحياة الحقيقية التي ينبغي التعامل معها قسرًا أو طواعيةً. ففي رواية سحرٌ أسود يمارس ناصر عطا الله [البطل المقترض] فعل الإخبار/ السرد عن حياة لا يدعي لها أية أهمية أو سطوة؛ هو بالأساس، لا يدعي لوجوده أية أهمية من أي نوع لكنه يخص عالمه ببالغ الاهتمام لأنه أيقونته الوحيدة؛ وتفاصيله الصغيرة البسيطة هي متنفسه وربما علة وجوده.
السارد في هذه الرواية يمثل أحد أهم العناصر البنائية في هذه الرواية. والسارد كما أشرت آنفًا هو "ناصر محمد عطا الله"، وهو في الوقت نفسه بطل الرواية ـ حتى لو اختلفنا حول مفهوم البطولة في الكتابة السردية والمسرحية في الفترة الراهنة؛ واكتفينا بأن ننعته بالشخصية المحورية. ولأن للسارد في رواية سحر أسود هيمنة على فعل السرد من بداية الرواية حتى نهايتها، فإنه تجدر بنا الإشارة هنا إلى أن العقد المُبْرَم بين الكاتب والقارئ ـ في هذه الرواية ـ تعاقد أوتوبيوجرافي وليس روائي؛ وعليه فقد سيطر ضمير المتكلم على العملية السردية
لماذا يبدو المثقفون أقل شرائح المجتمع تكيفًا مع ظرفهم الاجتماعي والحياتي؟ إنه سؤال الوهلة الأولى الذي استفزني كقارئ، وكأحد منتجات هذا الواقع لإكمال فعل القراءة حتى آخره. هذا السؤال هيمن بقوة على ذهني، مرةً أخرى، وأنا أعيد قراءة رواية "سحرٌ أسود" للكاتب الروائي حمدي الجزار. المُلفت للنظر، والمثير للدهشة في ذات اللحظة هي أن شخصية المثقف هذه، التي يطرحها الروائي، تمتلك من القدرة ما يجعلها تعلن بأشكال متعددة عن رفضها لـ (وعدم تكيفها مع) عالمها وظرفها الاجتماعي والحياتي، وأتطرف لأقول، والنفسي والإدراكي أيضًا؛ مع ذلك تتشبث وتعيش في حالة خدر دائمة. تتبنى القرارات ولا تنفذها. تُظهِر عدم الرغبة وتنصاع. لكنها لا تتمرد أو تثور. لا تنقلب أو تفقد خطوط سيرها. رغم هذا، أبدًا، لا تتكيف. والتكيف هنا له معنى أكثر دقة وعمقًا من مجرد التعايش الأليف؛ إنه القدرة على الفعل واختطاط المسار والتحقق.
من بداية الرواية يتعامل السارد الممسرح (ناصر عطا الله) مع نفسه على أنه هامش عالمه ولذلك يبدأ في بناء عالمه من الخارج؛ بل ويبدأ بتصوير عالمه هذا من حوافه لا من بؤرته ومتنه. فالعم ريحان الحانوتي هو أحد العناصر الممثلة لهامش/ حواف هذا العالم لأن وجوده جاء عرضيًا مؤقتًا. جاء مع انتقال ناصر عطا الله (المصور التليفزيوني) إلى الإقامة في حي جديد، في شقة جديدة في قلب القاهرة. حتى أنه ـ أعني الروائي حمدي الجزار ـ لم يمنح الفصل الأول ترقيمًا واتخذه كنقطة انطلاق لكادر كبير ممتد يبدأ من المشهد 0 حتى المشهد 36 هو الفصل الأخير في الرواية. لكن على الرغم من تدشينه لفعل السرد بمحاولة الاقتراب بعمق تصويري من شخصية ريحان الحانوتي الذي يجلس على باب دكانه ويقوم بخياطة الأكفان من أول النهار حتى آخره، إلا أن أول جملة في الرواية تقرر حقيقة أولية: نفي بطل الرواية (بصورة أدق الشخصية المحورية فيها) لشعوره بالرهبة من المكان ومن العجوز. لماذا احتلت كلمة (لا) السطر الأول في الرواية؟:
"لا.
لم أشعر برهبة من هذا المكان، أو بخوف من هذا العجوز الجالس على دكته الخشبية الصغيرة في مدخل البيت القديم، يخيط الأكفان البيضاء بابتسامة ثابتة تجمدت معها ملامح وجهه، ونظرته المقتحمة التي تتردد بين الإبرة والقماش والداخلين والخارجين من البيت. يتفحصهم طويلاً، بثبات، كأنه لا يراهم، تقريبًا، كأن عينيه ميتتان، أو هكذا يبدو لشخصٍ غريبٍ مثلي." الرواية ص. 5.
ربما كانت هذه الرهبة التي ينفيها ناصر عطا الله عن نفسه هي السبب الذي جعله كثير التنقل للعيش في أحياء القاهرة المختلفة (مدينة نصر، طريق الحبانية، الهرم، فيصل،...إلخ) رغم أنه أحد أبناء هذه المدينة في الأساس. إلا أنه سينصاع لممارسات أخيه الكبير مأمون عطا الله ويتركه يستولي على بيت العائلة، ليبدأ رحلة من التنقل الدائم بين أحياء وضواحي القاهرة. بطل هذه الرواية مستعد دائمًا (وهذا ملمح مستفز في شخصيته) أن يسمح لريحان باقتحامه:
"كنت على استعداد تام لإرواء نزق ريحان وشهوته الجامحة للاستطلاع، ومشاركته أسراري الشخصية التي كنت في حاجة ماسة لفضحها أم شخص عجوز حكيم مثله، يتعامل يوميًا مع الأجساد الناضجة المكتملة، التي تغادر الحياة وقد تخلصت من مأزقها. إنه يرى الناس في لحظة نضوجهم القصوى التي ليس بعدها شيء." الرواية: ص. 10.
إن في استعداد بطل الرواية (ناصر عطا الله الذي وُلِد يوم دفن عبد الناصر وسُميَّ بهذا الاسم كنوع من رثاء جمال عبد الناصر) السماح لريحان أن يقتحم عالمه وأسراره وتفاصيل حياته إشارة واضحة لإدراكه ووعيه الذاتي باتجاهاته السلوكية؛ غير أن استخدامه للقدرة على الاختيار يظهر، بشكل عام، في صورة السلوك المُعَطَل. ربما بدافع السأم من الحياة ومن رغبته فيها. أو ربما بدافع من عجزه عن التكيف. العجز الذي يعلن عنه صراحةً بين الحين والآخر. وللسارد دورٌ رئيسٌ في الإعلان عن ملامح عالم تَصِمَهُ الفوضى وتحركه أخلاقيات خبيئة هي ابنة واقع راهن له أيضًا معطياته ونتائجه. واقع تجاوز كل القياسات المنطقية وانطلق بطيش إلى فضاء فانتاستيكي غاية في الغرائبية وربما الترويع. واقع يكتبه روائي عبر سارد يحاول الحكي عن المعقول في واقع غير معقول. واقع يغيظ، ويُذهل ويُمْرض، ويشكل نوعًا من الحيرة لخيال المرء الذي صار ضئيلاً حياله. هل أصبح الواقع الفعلي ـ على حد تعبير مالكوم برادبري [الرواية اليوم] ـ يتغلب دومًا على موهبة الكاتب، ويقذفه كل يومٍ بشخصيات يحسدها عليه أي روائي؟ صحيح، من مثلاً يمكنه أن يبتدع شخصيات مثل ريا وسكينة، ماضغي الزجاج، وآكلي لحوم البشر، سماسرة السلاح، وكوادر المافيا، والانتحاريين، والقوادين ومزوري الانتخابات وبعض أصحاب الحقائب الوزارية؟!!
لقد تنوعت رؤية السارد في هذه الرواية. فأحيانًا ما تهيمن على عملية السرد الرؤية من الخلف Vision par Derriere
[3] وفيها "يتميز السارد بكونه يعرف كل شيء عن شخصيات عالمه، بما في ذلك أعماقها النفسية، مُخترقًا جميع الحواجز كيفما كانت طبيعتها. كأن ينتقل في الزمان والمكان دون صعوبة، ويرفع أسقف المنازل ليرى ما بداخلها وما في خارجها، أو يشق قلوب الشخصيات ويغوص فيها ليتعرف على أخفى الدوافع وأعمق الخلجات. تستوي عنده في ذلك جميع الشخصيات على اختلاف مستوياتها[4]. غير أن هذه الرؤية تُلزِم الكاتب باستخدام ضمير الغائب كي يقوم بالحكي بشكل مثالي. وهذا ما لم يلتزم به حمدي الجزار. فقد التزم بضمير المتكلم من البداية إلى النهاية؛ ويغوص في شخصياته إلى درجة أنه يتخيل صور أحلامهم، ونراه يتحدث عن قيلولة ريحان تحت بلكونته بعمق يجعل القارئ يتخيل السارد وقد أصبح كاتب سيناريوهات أحلام العجوز ريحان:
"....ويغفو في قيلولته اللذيذة. ينام كرضيع بعد دقائق قليلة من استلقائه على الدكة، ولا تفارق وجهه ابتسامته، كأنه يُداعب ملائكة طيبين، وعذراوات جميلات، ولا يرى في نومه ما أراه من كوابيس." الرواية ص. 6.
في نموذج آخر يعلن السارد المُمَسْرح عن أحد مناهجه في معرفة الآخرين/ العمق الجواني للآخر؛ فيقول:
"قلت لنفسي منذ سنوات طويلة إن أفضل طريقة لفضح الآخر هي أن تنظر في داخله مباشرةً، أن تطرق بوابته عبر عينيه ولا تجفل، لا تخافه حتى تراه وتعرفه وتُعَريه...." الرواية ص. 30.
في الفقرة السابقة نجد أن شخصية السارد تضاهي بدرجةٍ كبيرة الرؤية التي ينطلق منها في الحكي وإن قام بتعميق الرؤية بصورةٍ أوسع وهو يتقافز بين شخصيات عالمه بخفة مبهرة، حقيقةً، ودون أي مبالاة بالحدود المنهجية لهذه الرؤية. فأخذ ينحت ملامح الشخصية من الداخل بدقة وتقريرية، محاولاً ترسيخها بصورة يقينية عند المسرود له. غير أنه كان أكثر ميلاً لهذا التصوير الداخلي الدقيق مع أقرب شخصيات الرواية من عالمه. وفاتن شهدي هي أقرب الشخصيات في عالمه إليه؛ أو الشخصية التي طاولت في وجودها وممارساتها وتآريخها قامة الشخصية المحورية التي تمارس فعل السرد بضمير الأنا المتكلم. إن الإصرار على التمسك بهذه المنهجية في السرد مكنه أيضًا من عقد مقارنات بين شخصية فاتن وعالمه المهني؛ ولم يتوقف عند هذا فحسب، بل وأطلق أحكام تتجاوز كونها مجرد وجهات النظر. إنها تبلغ حد المعرفة اليقينية بعمق البناء الجواني لمحيطه المهني. نوع من التبصر. عدسة روحية أكثر حدة في اختراقها للتفاصيل المحيطة بها من عدسة الكاميرا الديجيتال التي كانت في فترة من الفترات تمثل حلم ناصر عطا الله المصور التليفزيوني الذي يرى بعينيّ رأسه وعين كاميرته وعيون روحه....:
"فاتن امرأة تخلو من الزيف والتصنع والتكلف......أقنعة ملونة من الزيت والجواش والترتر والخرز يدهنون بها وجوههم ويخرجون للقاء الناس مبتسمين ابتسامات بلاستيكية بحرص بالغ حتى لا تسيل الزيوت والألوان، وفي عالم ’الميديا‘ من لا يملك العدد الكافي من الأقنعة فإن فرصته في العمل والحياة أقل بطبيعة الحال. كلما زادت القدرة على إخفاء الشخص لنفسه كلما صار لامعًا ومرئيًا للجميع بشكل أفضل، يختفي اللحم والدم والحضور الشخصي لحساب العرض العام، لهذا يعيش أهل الميديا دائمًا في مواجهة جمهورهم أينما ذهبوا، يظهرون بكامل أدواتهم وحيلهم وأقنعتهم، فأفر من وجوههم....الفيلم السينمائي الوحيد الذي صورته فشل فشلاً ذريعًا، كما يقولون، بسبب فشلي في التكيف." الرواية ص. 46.
.....غير أن لعبة التنوع في استخدام رؤى السارد عبر الراوي العليم (بخصائصه المُلزِمة ـ من وجهة النظر النقدية) قد استهوت الروائي فأخذ يمزج بين الرؤية من الخلف والرؤية من الخارج Vision du
[5]dehors فأحيانًا ما يقوم ناصر عطا الله بوصف ما يرى ويسمع دون أن يتجاوز ذلك لما هو أبعد:
"تبدأ أصوات المشاجرة الليلية المعتادة تنبعث من خلف الحائط المشترك بيننا. أميز فيها أصوات العوانس الثلاث، كما يسميهن جمعة...... الليلة يضربها بغضب أكثر من المعتاد قليلاً، لأنها تمايصت في سوق الخضار مع المعلم عضمة الجزار حتى لا يدس الشغت في كيلو اللحم الكندوز....الأختان الأخرتان تنهنهان وتستجديان، بصوت خافت مكسور، وتتوسلان جمعة أن يكف عن ضرب أختهما. يتعب جمعة بسرعة من ضرب البنت الطويلة الفارعة، وأخيرًا تنتهي المشاجرة بجمعة يسب بنات الـ...." الرواية ص. 17.
من خلال هذا التنوع في الرؤى يستطيع الروائي حمدي الجزار عبر بطله ناصر عطا الله ترتيب وقائع عالمه دون أن يدعي أدنى مستوى من الحضور المركزي في بؤرة هذا العالم. فأحيانًا يحتل جمعة، جاره في المنزل، وأخواته الثلاث العوانس موقع الصدارة؛ بالضبط كما حدث مع ريحان في أول الرواية. في مشهد آخر نرى zoom in على شخصية أخرى تطفو على السطح لبرهة كفقاعة ضخمة ما تلبث أن تتلاشى. رغم ذلك ليس ثم من شعور بالطيش أو العشوائية. لقد تعامل حمدي الجزار بحرفية شديدة حين أضفى تطابقًا قويًا بين بطل الرواية ومهنته. فهو المصور الذي أبدًا لم ينس أنه مُصَوِر حتى وهو يتكلم. يعرف كيف يرى من خلف عدسة الكاميرا التي يحملها؛ ويعرف أيضًا كيف يرى بعينيّ رأسه، إضافةً إلى بصيرته التي كثيرًا ما يُنكرها على نفسه حين يتهم نفسه بالغباء والسذاجة:
[ماذا يُسمي الناس هذا الشخص الذي يُصِر على التشبث بالخطأ مقابل الآخرين، مقابل العالم كله، وكأن أمامه الأبدية ليخطئ؟ يسمونه مغفلاً، ساذجًا، أهطلاً. أنا أسميه باسمي، فمن امرأة لأخرى، من وجهٍ لآخر، من ناس لآخرين. لا أكف عن العشق، ولا أكف عن السقوط المريع من الدور الثلاثين على الإسفلت العاري، أسقط دون أن يقاسمني أحد. دون أن يعرف أحد. الرواية ص. 82.]
هناك عدة مستويات للفقد في هذه الرواية؛ فالفقد عند ناصر عطا الله يتجلى في وجود فقدان المركز والغاية. إذ أنه منذ قام أخوه مأمون عطا الله ضابط الجيش بالاستيلاء على بيت العائلة وهو في حالة من التنقل الدائم من مكان لآخر ومن حي لآخر؛ ومن ثم يغلب الإيقاع الدراماتيكي على شكل حياته. هناك جديد دائمًا ينتظره في كل مستقر جديد. وبطبيعة الحال، شخصية كهذه لها وقع غرائبي على بيئتها الاجتماعية أيًا كان مكانها. هناك فقد أيضًا للغائية. وسؤال يطرح نفسه، بقوة، دائمًا أبدا: لماذا تُعاش الحياة طالما أن مركزها غائبًا، وغائيتها مضببة أو غير موجودة أصلاً؟ أيضًا شخصية فاتن شهدي في الرواية تأتي لتعلن عن نفسها كمعادل آخر للفقد. فهي ـ أعني فاتن شهدي ـ امرأة مقبلة على نهاية العقد الخامس من حياتها، رغم ذلك لم تبحث بنهم عن الحياة. الحياة الحقيقية. حتى علاقتها ذات البعد الجسداني (الروحاني في أضيق الحدود) بناصر عطا الله موصومة بالنقص والارتباك، ومن ثم بالفقد لأنتفاء غائيتها. هي علاقة تقوم وتسقط وتقوم وتسقط عبر طرفيها وما يشوبهما من تشوش وتوتر وفوضى. إنه الفقد الطاعن في تدريب ضحاياه على العيش فقط بلا غائية، بلا أحلام أو أمصال واقية من حيله البارعة في اصطيادهم.
الرواية، وكما ذكرت من قبل، قادرة على إنتاج الغريب عبر رصد العادي والمشترك. الحكايات البسيطة وقد أصبحت ناضجة بما يكفي لإنتاج الدهشة والترويع والمخاوف. العادي والمشترك الذي نتوخي أن نصبح من ضحاياه. الحياة المقامِرة بنا؛ والتي لسذاجتنا نتصور طوال الوقت أننا نقامر بها تنتفخ وتنفجر في كل الوجوه بغتةً ودون سابق إنذار.


[1] حمدي الجزار، رواية سحر أسود، دار ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، 2005.
[2] كاتب ومترجم مصري.
[3] انظر T. Todorov: (LesCategories du recit). In L’analyse Structurle du recit
[4] عبد العالي بوطيب: مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي بين الاختلاف والائتلاف، مجلة فصول، زمن الرواية، الجزء الأول، المجلد الحادي عشر، العدد الرابع، شتاء 1993، ص. 72، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
[5] انظر T. Todorov: (LesCategories du recit). In L’analyse Structurle du recit.

ليست هناك تعليقات: